الدجاجة تلتقطُ الحَبْ
لقد منحتُ حياتي لشخصٍ أمكن لدجاجةٍ أن تحُل محلّه!
نيفيس التي ترملت قبل أيام في رواية محادثة ليلية لساشا ناسبيني
تعود أقدم الذكريات عن الدجاج إلى باحة جانبية في منزل جدّي، أتذكر وجود شبك فيه العديد منها، ويصدح صوت الديك من وقت لآخر، وأتصوّر أن الديك كان مُصابًا بالخرف لأنه يصرخ في أوقات عشوائية خلال الليل أو من يدري ربما كانت الملائكة تحوم في الأرجاء! لا أذكر أنني تمكنت من الإمساك بأي منها، ولكن أتذكر مطاردتها وهي لا تكل ولا تمل من الهرب. كان هروبها هذا من حسن الحظ لأنها إن توقفت سأتوقف حتمًا عن المطاردة، وفي ذلك السن أخاف من الجراد، والسؤال هل إلى اليوم أخاف من الجراد؟ لن أجيب طبعًا. المهم إذا كان الجراد يشكل تحديًا وأداةً لتنمّر الآخرين، فالدجاج بكل تركيبته العجيبة وألوانه اللامعة وصوته المزعج أمر مستحيل المساس به، لذلك كنت أركض خلف الدجاجة المجنونة في الوقت الذي أكتفي فيه من تسلق أسوار المنزل، وكلي أمل بألّا تتوقف عن الهروب أبدًا!
أميل أحيانًا إلى وجبة معينة خلال فترات محددة إلى أن أملّها، وهذه الأيام الدجاج. أتذكر الحماس الطفولي عند زيارة الحرم/جدة لتجربة البيك، وأعرف أشخاص قرروا التهام العشرات قبل العودة من هناك، ولا حاجة إلى ذكر كارثة المطبات التي حدثت لهم في طريق العودة. افتتح المطعم في القصيم قبل الرياض، وقرر البعض أخذها "صد/رد". فجأة وجدنا سيارات مرصوفة على طريق القصيم للبيع، قبل ثقافة الفودتركس التي غزت المدينة. سيارة شخصية تقف على قارعة الطريق، والشنطة مفتوحة على اتساعها تعرض العلب الفضية والأغطية البيضاء، ولوحة رديئة عليها شعار البيك بصورة كبيرة، سوق سوداء تتضاعف فيه الأسعار، ومن لديهم صبر كافٍ يمكنهم الانتظار وتسخينه في المنزل أما غيرهم وهم الأغلبية فقضمة من "مسحب البيك" البارد بعد تغميسه في الثوم تجربة تستحق أي تقلبات معوية لاحقة.
نكبر قليلًا ونتعلم قيادة السيارة، وتبدأ حياكة الذكريات في المطاعم، إن كان في النهار ففي مطعم زمزم والدجاجة التي حوصرت سابقًا بين ألسنة اللهب، الآن تتنازعها الأيادي الغارقة في الزيت واللُعاب، وإن كان في الليل فتغلّف كسيدة أرستقراطية من العصور الوسطى أو عروس ترتدي الخبز الشامي ومن فوقه الشيفون الأبيض إلى الأيدي المتعجلةـ أتذكر سياراتنا تتعطّر برائحة الثوم، وكانت المطاعم التي يُشد لها الرحال معروفة وبعيدة عن الحي، وبدلًا من سماع الأغاني التي كانت موضع خلاف، نحرك الحديث بالرد السريع بين لقمة وأخرى، ولسبب ما كان الجميع يتأنى قدر الإمكان في "السندويشة" الأخيرة. التأني هذا يذكرني اليوم بدكتور الاقتصاد وشرحه لنظرية المنفعة التي تنص على أن كل فرد يرغب في المنفعة القصوى من الأشياء، ولكن عند استهلاكها تقل قيمتها إلى أن تقارب الصفر، ولا تصل إليه أبدًا. هذا التأني ليس اقترابًا من الصفر، بل متعة أخيرة قبل الوداع، وحسرة مكتومة على قرار اثنتين بدل الثلاث!
الدجاجة ليست حصرًا على المائدة، نجد في بعض العبارات الشعبية مثلًا: "ترى الدجاج يلقّط الحَب"، وبالعادة تستخدم لتغيير مجرى الحديث لوجود طفل أو متطفل في الأرجاء، وأجدها صورة شاعرية تذكرني بالباحة القديمة، يمشي الدجاج ولسبب ما لا يتوقف رأسه عن الحركة في كل الاتجاهات، وينحني ليلتقط ليس الحَب فقط بل أي جسم أمامه، المفارقة أن المتطفل هنا لا يحرك رأسه كثيرًا ولكن يلتقط أكثر من الحبوب، ويعيد توزيعها كيفما شاء في كل مكان لاحقًا، أما الأطفال فيعز عليّ الإسهاب وربطهم بالدجاج!
أتصوّر كلنا مر علينا سؤال من أتى أولًا البيضة أم الدجاجة، وغالبًا المرة الأولى في المدرسة. يقرر أحد المدرسين بعد أن سئم من الإزعاج أو شعر بأنه في لحظة تنوير ليحرك السؤال ويفتح باب الجدال. السؤال الذي بدأ من الفلاسفة القدامى عن أصل الأشياء ومن سبق من، وولادة رؤية معينة للوجود عن تتابع الموت والحياة، وينتقل السؤال إلى الأديان، ويُحسم الأمر سريعًا الدجاجة أولًا، وفي علم الأحياء يُقسم إلى مدرستين إلى أن وصل إلى فصل دراسي في السويدي، والمدرس يقارع كل الحجج بهذا الرد: "طيب شلون جت الدجاجة/البيضة؟"، حاول أحد الأذكياء مراوغة المعلم: "الديك يا أستاذ"، الأستاذ لم يلتفت إليه، وظل في دائرة الرد تلك حتّى نهاية الحصة، ولو كان حديثنا عن الديك فمن يستطيع نسيان ديك كولونيل ماركيز الذي كان وربما ما زال ينتظر رسالة معاش التقاعد، ولكن نتحدث عن الدجاج اليوم!
في رواية محادثة ليلية لساشا ناسبيني يفتتح العمل على وفاة أنتيو، ويترك نيفيس -عجوز وحيدة- في الريف، تواجه المسنة الشعور الموحش الذي يصيب من هم في سنها: الوحدة. وعلى غرار أمها التي آنسها صرصار، تقرر اتخاذ الدجاجة العرجاء جاكومينا رفيقة لها تتحرك في المنزل كيفما تشاء، وتعتاد على رائحتها وشؤون الطبيعة، بل أصبحت تنام بجانب السرير كمخلوق يعوض شيئًا من الفراغ الذي خلفه رحيل أنتيو. في أحد الأيام تتشنّج جاكومينا، تتوقف عن الحركة بعينين مفتوحة كتمثال محنّط. عالم نيفيس يتداعى، تركض إلى الهاتف وتحادث البيطري، ويبدأ مهرجان الكلام الذي امتد طوال الرواية بين أرملة مسنة تشعر بالوحدة وبجانبها دجاجة متصلّبة، والبيطري السكّير بجوار الغرفة التي ترقد فيها على وصف نيفيس: "الشاحنة". عند تجريد الروايات عمومًا تجد لحظات مكثفة تشد الأعصاب وأخرى أكثر هدوءً وتمهيدًا، ويمكن تخيلها كلعبة قطار الموت يتنقل بين الصعود والهبوط. هذا العمل يصعد، وما إن تحاول التقاط الأنفاس حتى تجد نفسك تصعد مجددًا، تقول لا يوجد صعود أعلى من هذا، وترتفع مرة أخرى، وخلال هذه اللحظات تتنقل انحيازاتك بين الشخصيتين لتُرمى في نهاية المطاف من مكان بعيد جدًا، المكان الذي فجره الفراغ والوحدة والوجه الحقيقي للذكريات لكسب انتصارات متأخرة جدًا ربما خففت وطأة الأحقاد المتراكمة على مر السنين، وكل هذه الدراما حُرّضت بسبب جاكومينا، الدجاجة العرجاء!
لم يستهن القدامى بالدجاج، ولّدت السؤال الفلسفي، ودائرة السبب والنتيجة. ولو سألت نفسك ما الذي تعنيه إن زارتك في أحد الأحلام، ربما يتبادر إلى ذهنك هو الاشتياق إلى الشاورما، لا طبعًا، ابن سيرين يقول: "الدجاجة امرأة رعناء حمقاء ذات جمال من نسل مملوك أو من أولاد أمَة أو سرية أو خادمة، ومن ذبحها افتض جارية عذراء. ومن صادها أفاد مالًا حلالًا طيبًا. ومن أكل لحمها، فإنه يرزق مالًا من جهة العجم. ومن رأى الدجاجة والطاووسة يهدران في منزله، فإنه صاحب بلايا وفجور، وقيل: الدجاجة وريشها مال نافع".
تدهشني دائمًا فكرة أنه يمكن لأشياء صغيرة وأحيانًا بلا معنى في أن تكشف لنا الحقائق التي كنا نتجنبها، سواء عن أنفسنا أو عن الآخرين. عقولنا تتسلّح بالمنطق والجنون حتى تبقي بعض الأفكار والمشاعر في أماكنها بغض النظر عن المواقف ومرور الأيام، ولكن يمكن لشيء بسيط كالدجاجة في حالة نيفيس أن يهدم كل الحواجز الذهنية عنها. ما زلت مؤمنًا بأنه يصعب تعريف الحياة دون استعارات، تتنوع من وقت لآخر، واليوم أراها دجاجة تركض، دجاجة لا يمكن الإمساك بها، تلتقط الحَب، تسرح وتمرح بلا استحياء، سواء في المال أو المرأة الذكية/الرعناء أو المشاعر أو الفجور أو أيًّا ما تمثله، لكن سيحين يوم تتشنّج فيه هذه الدجاجة، تتوقف أمامنا، ونتوقف بدورنا، وتجعلنا نعيد النظر في كل الأشياء، والبيطري السكّير/الطبيب النفسي الذي سيسمع كل هذا يظل معلّقًا إلى حينه، أما الآن سأذهب لطلب بروستد من ماما نورة.
الوليد
Alwaleed@hey.com