في ذكرى الفقد: رحلت ولم ترحل
عقد مضى منذ رحيلها، ذلك الرحيل الخاطف، السريع، والمدوي.
رحيل غيّر معه وجه الحياة، منعطف في حياتي بات فيه الحنين قدر حتمي ومصير، هذا الحنين، هو الحنين الأبدي، يتجذر في الهوية، يُعجن في الروح.
رحلت جدتي في 2012/5/30 توفيت في عمر تجاوزت فيه الثمانين، جدتي هي نوير القحطاني.
عند الحديث عن جدتي أحب البدء بشخصيتها، تعنيني الشخصية أكثر من التفاصيل الأخرى لا سيما عند التعريف بشخص ما.. كانت جدتي اجتماعية تأنس بالناس وتحبهم، مبادرة ومعطاءة، ودودة ومرحة، كانت شاعرة تهوى اللغة والفصاحة، تولي أهمية كبرى لمهارات التواصل، كانت شخصية حماسية وقريبة إلى مشاعرها، لا تتردد في إظهار الحب والإعجاب، لا تخجل من دموعها.
كان للدين أولوية قصوى في حياتها، مهما كانت الظروف لا يمكن لأي شي أن يحيدها عن عبادتها وابتهالاتها في كل ليلة قبيل الفجر، كانت وفية، تُجيد الوقوف في جانب من تحب، يلجأ لها الجميع نساء ورجال، كبار وصغار، بغرض مشورتها في مختلف شؤونهم.
لم تكن حياة جدتي عادية، يمكنني أن أصفها بحياة ثرية بالأحداث! تشمل خبرات سارة وغير سارة واجهت الكثير من التحديات لكنها خاضت تلك الحياة بجسارة وإقبال رغم الخوف، في صغرها كان انفصال والديها الذي ترتب عليه فراق أختها الشقيقة الوحيدة، بقيت جدتي مع والدتها حصة، وذهبت أختها نوره مع والدها فايز، عاشت جدتي مع والدتها وكانت أم قبل أن تكون أم، حيث قامت برعاية أخيها الأصغر غير الشقيق، وتزوجت في سن مبكر كعادة الزواج في زمانهم، تنقلت أكثر من مرة تزوجت أكثر من رجل قبل الاستقرار مع جدي، فقدت ابنها البكر بالحصبة، وتوفي لها ابنتان إحداهن في حادثة حريق صادمة.
لكنها عاشت بجسارة وصبر، كان وقودها الأمل بالله والصلة به، وزادها هو العيش بحب وسلام مع من تأنس بهم في مجتمعها.
احتضنتني جدتي في طفولتي حظيت بهذا الجمال أن أكون "ابنة جدتي" فتكون هي أمي وجدتي في آن واحد، الكثير من الذكريات أعود لها وتجتاحني لتطوق روحي وتحتضنها.
رحلتي يا جدتي ولم ترحلي، لا زلت أستحضر "دغدغاتك" التي تتسارعين بها عندما تلمحين الحزن أو الضيقة فيني وفي من حولك، حيث تتسابق أصابعك الحنونة إلى تحت ذراعي لإضحاكي.
لقهر الضيقة بلطف، أتذكر ابهامك وسبابتك عندما تلمسين أنفي لتقبيلن أصابعك بعد ذلك، مرددة جملتك: "يا بعد عمري وفوادي" من بعدك أصبحت كلمة الفؤاد في قاموسي دون الهمزة، أقرأها وأسمعها كما كنت تنطقينها "فوادي" ولا تزال في فوادي يا جدتي تفاصيلك.
أتذكر حفاوتك لتسكن روحي، وبهجتك عندما تجعلين الكلمات والفنون الشعبية محور جلستنا، تصفقين بيديك وتهتفين وتنادين الجميع للاستماع للبلاغة والفن.
كنتِ ملكة الأعياد، للعيد بهجة مضاعفة بوجودك، لا تتنازلين عن الرقص والسرور.
في العيد كنتِ تبصرين وجهي ووجوه حفيداتك بطريقتك الخاصة، تطوقين وجهي براحة كفيك، لم يكن متبقٍ لكِ من البصر ما يساعدك على رؤيته، لكنك كنتَ تبصرينه وتبصرين روحي بكفيك!
لم أشعر يوما بأن لوجهي نور مشع إلا وهو بين كفيك، لأنها كفيك…
كنتِ تمسكين بمعصمي بين فترة وأخرى، كانت هذه طريقتك لقياس ومتابعة وزني، بتحسس عرض معصمي..
أعظم سكينة وطمأنينة في العالم كانت ولا تزال في ذاكرتي، عندما كنت بجوارك وأنتِ تتناولين افطارك، بعد الانتهاء من رياضة المشي في الهواء الطلق، وتلاوة الورد الصباحي، كنتِ تحبين التسبيح على وجه الخصوص "سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" لا زالت في مسامعي بصوتك أنتِ يا جدتي، وكأنها لك حصرا.
أتذكر عندما تمرنين ذاكرتك كما تمرنين جسدك كل صباح، فتقدمين لي المصحف وتطلبين مني الاستماع لما تستدعينه من ذاكرتك من سور القرآن التي حفظتها بالاستماع لا الإبصار، فكنتِ تفرحين كثيرا عند تأكدك من أن ذاكرتك قوية، حتى في وجه الزمان!
تحبين سرد الحكايا، والأحداث التاريخية، تحبين الحنكة والحكمة، رحلتي ولم ترحلي يا جدتي، في الذكرى العاشرة لوفاتك، اليوم! أعود لك وأفرّ من أوجاع الحياة إلى تلك الذكريات فيلتئم بها جرح رحيلك، بحضورك الراسخ في الذاكرة والوجدان، بحضورك الذي لطالما طوق روحي بالطمأنينة.
منذ عقد من الزمان وأنا أحاول التعايش مع هذا الفقد، علمني فقدك الكثير، ولا زلت أتعلم عنه وبه، يوم عن يوم، عام تلو الآخر، أحاول هضم حدث الوفاة، باعتباره طورًا من أطوار الحياة، لا تنتهِ به الرابطة، تبقى معنا وتنمو بنا وأن غاب طرفها، ها أنا في محاولتي الأولى للكتابة عنك! أكتب لك…
أحبك يا جدتي سلام عليك، أفتقدك جدا…