عودًا حميدًا

شذرات من طفولة...

مرحبًا مجددًا، بتوقيت شتاء الرياض البهي والرقيق، أكتب في صباح يوم سبت مع كوب شاي بارد وقصيدة. 

كيف حالكم جميعًا؟ كيف تبدو فترة الدراسة والتحضير لكل الإمتحانات؟

أشعر بكم تعاطف هائل الآن إتجاه كل الطلاب، رغم حبي الكبير للتعلم إلا أن ضغط الإمتحانات هو أحد الأشياء التي يصعب علي الإشتياق لها، بل كانت من مسببات الإنهيار النفسي الأول لدي، لكن ما يميز تلك الفترة هي إنتهاؤها، الراحة المتسللة لكل أجزاء العقل والجسد بعد الإنتهاء من الإمتحانات، هي الشعور المرجو تواجده بعد كل الصعوبات، ولا أجد الأمر سيئًا تمامًا، هي أحد الفترات التي تصقلنا على ما يبدو بطريقتها الخاصة جدًا. 


نتوقف قليلاً عن الحديث .. نفس .. اثنان .


ما هي الطفولة؟ هل هي اللاخبرة أم براءة متنكرة.. كان هذا عنوان مقالة أعدها منذ مدة .. لكن حقًا كيف تعرفون طفولتكم؟ بالأشخاص أم الأثار أم الأماكن أم جزء من كل شيء؟؟ 

كيف تبدو لكم حقيقة طفولاتكم؟ ما الذي تتذكرونه .. وكيف تصفون هؤلاء الذين صقلوها؟ 

أستطيع بلا شك أن أقول أن طفلوتي جيدة، بل تشبهني، تشبه صورتي الحالية و صورتي السابقة وكل صوري، هي هنا وهناك في زاوية ما قابعة في جزء مني باقية لتذكرني بالكثير.. أستطيع دومًا أن أتذكر شيئًا منها ليصبح شاهدًا ما.. أما اليوم فهو جزء صغير .. ولكنه جزء ثابت .. جزء لا يتغير، جزء يبقى حبي له كما هو رغم التغير والرحيل والإغتراب والعمر .. 


تدوينة اليوم عن جدي ورؤى والطفولة .. 

مواضيع لذيذة لي .. سأجعلها ممتعة لكم .. وكيف ترتبط كل هذه الأمور الثلاثة المهمة جدًا بي… 


شخصان رائعان، إثنان من أحب الأشخاص لقلبي ونقطتان مفصليتان في الحديث عن العائلة والدفء.. ولو أني أشعر أن لا شيء سيشبه الحقيقة التي في داخلي إتجاههما .. إلا أن الكتابة عنهما وتخليدهما في المدونة أمر يبدو واجبًا ..


جدي.. ملا محمد ملا رشيد، هكذا يسمي الناس جدي، وأسميه أنا منذ الطفولة الأولى جدو، جدو وبالرغم من إستعمال مصطلح لطيف كردي لجدي الآخر رحمه الله، لم يأتي يوم ناديت فيه جدي سوى جدو، لم أستعمل كلمة “يابو” أو “بابو” أو “كالكو” .. جدو فقط، جدو بطوله الفارع و لحيته المشابهة لجماله، بساعته في معصمه، وتسمياته اللطيفة لي، جدي بثوبه الرمادي، وأناقته المعتادة ورائحته التي تسبقه في المكان، بقانون القيلولة وقت الظهر بعد الغداء وقهوته وسجائره وكتبه والمسجد الملحق بالمنزل.. هو جدي بصورته التي تنعكس في كل مكان، لكنه جدي بصورته الأصفى و إبتسامته الأعذب بالنسبة لي، جدي الوسيم والرائع.. جدي الذي جلب لي مثلجات الكرز وأنا أبلغ 21 عامًا في الساعة التاسعة مساءًا.. جدي الذي يجلب لي خبزًا دافئًا كل صباح وجدي الذي يدللنا بأن يخبر الجميع بمكانتنا وباباتسامته الدافئة حين يلقانا..

أذكر جدي حين كان يجلس في مؤخرة داكنه حين كنت أذهب للقامشلي في تلك الزيارات الصيفية، جدي و إبريق شايه وضيوفه الكثيرون، ودرج الساعات الذي يقف أمامه أحد أخوالي، وخطفنا لكل تلك الحلويات و المحليات التي قد تصيبني بالتخمة، ولكن شعو أنه دكان جدي يشفع لكل شيء. أحب جدي، أحب جدي جدًا بل أن سببي الوحيد في السفر لسوريا في صيف 2019 لم يكن سوى لرؤسة جدي، لأن لا دافع لدي للذهاب هناك حقًا بطريق بري سوى رؤية من أحب، لا سبب منطقي أبدًا.. سوى ذلك .. كان الدخول لحوش الدار بعد ما يقارب التسع سنوات هو أمرًا مستجلبًا لكل العواطف التي سبق و عرفتها أو تعلمتها.. الحوش الذي كنت أسعر به شاسعًا يضمني، شعرت به ضئيلاً أضمه أنا في صدري، أشجار الزيتون المهيبة شعرت بها هي التي تتسلق أضلعي، وباب المنزل الأبيض الحديدي شعرت به يفتح لي ذكريات ما، صوت خالاتي و أخوالي، صورة خالي الصغير راكضًا و أنا راكضة، خالاتي المصدومات مني أنا الحالية الطويلة، الطفلة التي أصبحت أنثى كبيرى ربما؟ صورة الطفولة التي تغيرت، الصورة الحديثة للحنان كانت هي أنا أضم الذكريات.. و تلك الذكريات لم تعد تضمني .. لكن جدي .. كان هو جدي .. ضمني جدي .. محتضنًا رأسي.. مقبلاً لي، مبتسمًا برؤيتنا.. كان جدي نقطة الثبات، خالاتي الآن أمهات لأطفال مختلفي الأعمار، آني.. أو زوجة جدي التي نسميها بآني تيمنا بالمسمى التركي لماما أو جدة على ما أظن تملك طفلين أيضًأ، جدتي رحلت منذ وقت بعيد.. وجدي نقطة الثبات الأولى في ضمي للذكريات و لصدره ولصورة الموطن ولحقيقة النقاء… 


لجدي في يده بقع بهاق بيضاء جدًا، و أنا أحبها بل أستلطفها، فهي تبدو كأحد صور النقاء الأبيض لقلبه، صوت جدي حين يناديني بهيڤا، وبالمسمى الرقيق “برخامن” و هي الكلمة الكردية المقابلة لمسمى نعجة أو خروفي الصغير، ولا أنا لا أشعر بأ] ضيق منه لأنه أليف جدًا،لقهوة جدي و لهدته المميزة حين يسترجع قصة فيها أجزاء يحادثنا فيها بالعربية وينقلها، لمشيته الهادئة لكل هذه الأمور وقعها في حقيقة ثبات ذكرى الطفولة.. هكذا تبدو الطفولة أو عملية استدامتها، من المحال أن تبقى الطفولة كما هي بدون ركن ثبات، بل أظن ولا شك أننا نكبر نكبر دومًا إلا عند أجدادنا، نكبر دومًا إلا في منازل أجدادنا وأمامهم، نكبر دومًا إلا عن دلالهم.. طفولتي في منزل جدي في الهلالية ليست سوى ذكريات صيفية ناعمة.. ذكريات قصيرة أستحضرها بصور خلف ستائر دانتيل بيضاء مخرمة.. خلف تجاويف الوداعة.. هكذا أسترجعها .. و لجدي فيها نصيب الثبات.. نصيب البقاء .. و نصيب أنه جدي .. وأنه ورغم تلعثمي حين أحاول أن أحادثه في الهاتف إلا أني أعلم أني أحب جدي .. بل أحب حين أسمع صوته خلف شاشة الهاتف أو أجده جالسًا و تقبع خلفه كتبه.. جدو .. الذي أريده أن يقرأ القليل فقط مما يعبر عنه و يذكرني به، جدو الذي أريده أن يقرأ كل هذا بابتسامة وديعة وقلب ممتلئ بالدفء في شتاء القامشلي الذي لا أتذكر أو أعلم كيف يبدو … لكن أريد أن يعلم جدي أني أحبه كثيرًا.. وأن القهوة برفقته هي اللذة حقًا.. وأن لا ملذات لطيفة مثل كل تلك الحلويات التي كان يشتريها أو الأطعمة التي يجلبها، أو رأيه في ما صنعته من أطعمة.. أنه نقطة ثبات للاحتفاظ بالطفولة في زاوية قلبي.. 


رؤى .. 


رؤى عزيزتي .. تعمدت أن أكتبك في الجزء الأزرق .. اللون المحبب لك.. 

رؤى ستقرأ هذه التدوينة غدًا أو بعد غد في الرياض، وهو أمر جيد جدًا.. فهذا يعطي مساحة لاحتضانها واقعيًا بدل تمني حضورها بينما هي بعيدة في قارة أخرى.. 


رؤى صورة أخرى لطفولتي، بل جزء كبير من طفولتي.. بل رؤى هي التشكيل الأول لصورة طفولتي المبكرة و أيام مراهقتي .. رافقتني رؤى منذ حضرت أمي للمملكة برفقتي بينما يبلغ عمري ستة أشهر و هي الثلاثة أعوام.. ثم رافقتني عندما حجت أمي و أنا أبلغ من العمر عامًا، يخبرني الجميع أنها صنعت كيس حلويات لي، وكانت تعتني بي ولا تسمح لأحد بمضايقتي، كانت رؤى تحميني، و لوقت طويل جدًا، حتى في أيام المدرسة الأولى ظلت تحميني، ورغم اختلاف شخصياتنا، اعتادت رؤى أن تسمع ثرثرتي حتى حين يتحول مزاجها الذي يكون ظاهرًا و جليًا على وجهها.. رؤى التي كانت تجرب في فترة الثانوية كل خميس معي مطعمًا جديدًا للوجبات السريعة.. هي ذاتها التي جعلتها تعديني بالعنقز أو حصبة المياه.. أذكر الموقف جيدًا.. عشنا في ذات المنزل.. حين أصيبت رؤى، أصبح من الممنوع علي أن أذهب من ملحقنا إلى المنزل لديهم، كان علي أن ألتزم بالابتعاد عنها أو اللعب معها.. أراد والدي أن يرضياني من هذا الحجر المفروض فأشتروا لي لعبة على شكل مكواة وعدة مطبخ أخرى، لكن اقتضت العادة أن ترى رؤى لعبي.. تسللت صباحًا نحو الشباك الذي يطل على الحوش، وقفنا هناك نسلم على بعضنا و أريها ألأعابي.. التقطت العدوى و أصبت بها.. هكذا ببساطة.. أصبت بالعدوى و أنا طفلة في الصف الأول نزقة حين أمرض، بل ولا أزال بعض الشيء أكره أن أمرض لأن مزاجي يحال لأسوأ صوره فلا أطيق جلدي بل وأكره حقيقة المرض كلها… 


رؤى .. رافقتني في يومي الأول في المدرسة، و في يويم الأول في المتوسطة.. ويومي الأول من الثانوية.. بل كانت أحد منقذي من متنمري المرحلة الإبتدائية .. أنا القصيرة بشعري المجتمع خلف رأسي.. و جسدي النحيف.. كانت هي نقطة الأمان، المدافع لي أمام جدي رحمه الله حين يأتي لاصطحابنا.. كنت أتأخر في اللعب أو الحديث لتدافع عني أمام غضب جدي لأني أتأخر.. رؤى التي تقاسمني الحلوى، و تصنع لي ساندويتش الجبن بالخيار في المساء، أذكر أنها صنعت لي البيض حين تعلمت كيف تقليه، كانت رؤى هي الأحب لقلبي، وستبقى، رؤى التي شهدت كل مواهبي، و تغيراتي النفسية و الجسدية، رؤى التي كانت تظفر لي شعري في الثانوية حين يتأخر جدي في القدوم، التي تعطيني جاكيتها حين أبرد في المدرسة، ذات الفتاة التي تقاسمت معي الكثير من الفرح في كثير من الأوقات، التي تقتسم الفخر مع أمي، ابنة العم التي تسمي نفسها بأمي الثانية … هي التي تحبها أمي جدًا .. بل كانت تخبرها بنتك و بكيفك، كانت رؤى تجعل من نفسها مسؤولة عني، بل تسمع بأخباري قبل الجميع، أشاركها و تشاركني..  تتواجد رؤى كصورة التجدد المستمر لحقيقة أن بعض الأفراد هم صورة العائلة و القرابة الأكثر مثالية.. كل ذكرياتي المدرسية تقريبًا تحوي رؤى، وكل ألعابي في الصغر، حتى أن بعض ألامي تتضمن رؤى.. بل من الطريف أنه في أحد المرات غضبنا فأغلقت الباب فكان النصيب ليدي المتطفلة التي أرادت أن توقف الباب عن الإغلاق بأن تعلق هناك و يتورم إصبعي .. رؤى التي تقاسمنا أنا وهي ليالي الاعتناء بجدتي العزيزة طيب الله ذكرها.. التي كانت تشفق علي من التعب أيام امتحانات الجامعة وتخبرني أن أبقى لأدرس، رؤى التي تدعم كل دراستي و تستمع لتلك النظريات التي أشرحها، والفتاة التي أحب أن أستمع لها حين تشرح لي مواضيع تخصصها، و تريني كيف تبدو كل تلك الأعصاب والبكتيريات.. لرؤى و نمشها الجميل، النمش الرائع الذي كان الجميع يحاول أن يصنع له حلولاً و بقي ثابتًا النصيب الكبير من الحب، لرؤى وابتسامتها وتشكل ظفيرتيها في الصغر والدبدوب الذي لا تزال تحتفظ به ولأول علاقة مفاتيح جلبتها لي في عيد ميلادي الرابع عشر الحب .. ولرؤى والمثلجات والمشي في حوش منزل جدي تحت المطر.. وللكتابة فوق الغبار الذي يحيط بالسيارات وللحظات فرحي كلها التي كانت متواجدة فيها، ولكونها المواساة الأعظم لي حين توفت جدتي.. ولأن رؤى هي صورة الطفولة التي أجدها دومًا.. ولأنها كما هي جميلة و رائعة وذكية جدًا.. و لأنها رؤى التي طلبتني كعكة منذ أسبوع، لأصنعها كمحاولة لصنع الجمال الذي تمثله لي، كعكة أخرى كان لها النصيب لتصبح جزءًا من ذاكرة الجمال.. 




هذه التدوينة .. تطرقت فيها لذاكرتي .. و تشكيلتي .. و جزء مما يصنعني أنا .. لم تكن هذه التدوينة للكعك أو الخبز.. بل كانت لي ولبعض من الذين أحبهم.. تدوينة بعد غياب.. محاولة لاستعادة اللياقة والحب عن طريق الحديث عن صورة الحب الرقيقة .. صورة قصيرة لا توفي مكانتهم في قلبي.. هذه تدوينة لمشاركة المحبة.. 


في الأسفل شاركوني أولئك الذين تعدونهم نقاطًا فاصلة في حياتكم.. ما الذي صنعوه .. حدثوني عن أؤلئك الذين تحبونهم جدًا… 

مساحة مشاركة 

Join