احتفاء بحياة مامنيرة

الاثنين ٢٣ يوليو ٢٠١٨

ودعنا اليوم جدتي منيرة السبيعي (اللي كنا نسميها “مامنيرة” كتسمية دارجة في العائلة)، والتي توفت بسلام اثناء قيلولتها عصر الأمس. كانت في الثمانينات من العمر او قد تجاوزت التسعين رحمها الله.


يحب الناس تبجيل موتاهم وذكر محاسنهم. هذا ليس هدفي هنا. وليس هدفي ايضاً بث او التنفيس عن الحزن العميق اللي احس به. لأن فعلاً اكبر شعور احس به الآن هو الاحترام — درجة مهولة من الاحترام للحياة التي عاشتها، المصاعب اللي تغلبت عليها، والحب اللي خلفته وراءها مامنيرة.


مامنيرة هي امرأة نجدية (من القرائن، قرية بجانب مدينة شقراء) توفي عنها زوجها (جدي ابراهيم رحمه الله) وانبرت لوحدها لتربية اطفالها الثمانية (اربعة ذكور واربعة اناث). اكبرهم (والدي عبدالله) اضطر للسفر لاكمال دراسته الجامعية. كلهم يشهد لها بتمام التربية. حِرَفُهُم تباينت بين التعليم والتربية والكتابة والترجمة والهندسة. خلفوا ورائهم جيلاً ثالثاً ورابعاً. رأت مامنيرة أحفاد ابناءها وبناتها.


لا اعرف الكثير عن تجربة تربية ثمانية اطفال، لكني اعرف اني سأصاب بالذعر اذا كنت سأفعل ذلك لوحدي دون مصدر مالي غير راتب تقاعد زوجها المتوفى (لا اعرف مقداره، اظنه كان ٤٠٠ ريال ثم اصبح ٨٠٠ ريال؟ طبعاً قبل عقود من التضخم).


اذكر ذهاب مامنيرة إلى مدارس محو الأمية وانا صغير وهي في الستينات من عمرها. استمرت بعد ذلك بحفظ القرآن، وأتمت حفظه كاملاً في شيخوختها. كانت تطلب منا أن “نمسك عليها” (نراجع حفظها بأن نتبع في مصحفها الكبير)، كانت تغمض عينيها بقوة، وتبدأ بتسميع حفظها. كانت حريصة على صلاتنا في المسجد. اذا زرناها في الجمعات العائلية يوم الجمعة وجاء وقت صلاة العصر كانت تقول “إبتس ابوك لا مات وعصر الجمعة لا فات” (بمعنى “إبك على ابوك اذا مات، وإبك على فوات صلاة العصر يوم الجمعة” — لهجتنا تحول الكاف في نهاية الكلمات إلى صوت “تس”). أما باقي الصلوات فكانت تحثنا بقولها “الصلاة يا خَلَف أبوي” بلهجة توسلية.


أبرز طبخات مامنيرة في نظري كانت السليق. اذكرها وهي تحركه في قدر كبير صباح عيد الفطر — كان هو مشاركتها في حفل الافطار الصباحي بعد صلاة العيد في حيها السكني، حيث كانت الاسر تقدم اطباقها المختلفة لحفل الافطار الجماعي (جماعي للذكور، تظل هذه هي نجد بنهاية الحال). وصفتها لورق العنب المحشي بالرز هي قطعاً الألذ التي ذقت في حياتي.


يصاب الناس بانتقائية الذاكرة عند رثاء من يحبون، فلا يتذكرون الا المواقف الايجابية الحسنة. لكني فعلاً لا اذكر من مامنيرة غير لطفها، ابتسامتها الحاضرة، محبتها للجميع ومحبة الجميع لها. أكثر لحظة غضب رأيتها فيها هي عندما “فَصَلت فيش” كمبيوتر “صخر” لأننا كنا مندمجين في أحد ألعابه وهي منزعجة لأنه اشغلنا عن صلاة الجماعة التي انعقدت في المسجد المجاور. (“فصلت فيش” اي قامت بسحب التوصيلة الكهربائية الجدارية لإطفاء جهاز الألعاب الالكترونية الذي كنا نلعب به في ذلك الوقت — بداية التسعينات، كمبيوتر صخر MSX). أضحك كلما تذكرت ذلك الموقف لأنها لم تصرخ ولم تعنف، قامت بالتنبيه وابداء انزعاجها مرتين، والمرة الثالثة رأينا يدها تمتد من الباب إلى التوصيلة الكهربائية المجاورة للباب وتفصل السلك، ثم تنسحب. قد أعذر من أنذر!


رأيتها الجمعة قبل الماضية. أقعدتها الامراض وكبر السن وذهب بصرها في اخر عمرها. لكنها كانت بكامل حضورها الذهني. وصتني بأبي وأمي، بالاعتناء بهما، تفقدهما، وزيارتهما باستمرار ، وبتفريحهما بالهدايا مهما كانت صغيرة. أحسست بالدفئ لأني لم اعتد نصحها بهذه الطريقة. طلبت مني وعمي نزع قفل صندوقها الخشبي الكبير لأن مفتاحه ضاع. نزعناه. بالأمس وجدوا وصيتها في نفس ذلك الصندوق. أوصت بأن لا يعقد لها عزاء غير ما يكون للجنائز في المسجد. خفيفة الظل والروح لم ترد أن تثقل على أحد.


سأنتهي هنا ولن اسهب في تفاصيل النهاية (فيما عدا تفاؤلي بأنها ارتاحت من أسقام كبر السن وأعضائها التي تشتكيه) لأن هذا هو احتفائي بحياة هذه المرأة، وبالبصمة التي تركتها، وبالأجيال من ذريتها التي ستذكرها على أنها مثال لأن تغمر الناس بلطف صادق غير متصنع، ومثال لأن تنشغل بتطوير ذاتك وبرعاية من تحب.

Join