لمبة الخيال وصراع المحال

 KDakhyel - خالد 

جسدٌ مُستلْقٍ على الأريكةِ، ساقٌ مستلقٍ على ساقٍ، عينان تحدقانِ في لمبةٍ أعياها الزمان، يدانِ متشابكتان، أصابع قدمٍ تتداعبان، فمٌ في حالة هيجان، وكأنّه يعلم ما سيحدث مسبقاً؛ متشفقٌ للإعلان. أول الدقائق، تحديقٌ بإمعان، تومض أو تحتضر تختلف المفردات ويتّفق المعنيان، لثانيةٍ تضيء ولربع ثانيةٍ تستريح أزيزُها يملأ المكان والزمان يستطيع وحده خرق الزمكان، ونحيب وميضها يُفجّر كلّ أُذُنٍ تسترق السمع وتُفتّش عن البيان، وأصواتٌ أخرى مشوّشةٌ تداعب الأُذنين. تتأوه بشدةٍ ككهلةٍ أهلكها داء العظام، أسلاكها واهنة، غازاتها متلاشية، تأبى العمل وتعجز أمام كلِّ شاكلة، لكن إخلاصها يقوى على كل أبىٍّ يقابله. الذهن في قبضة الوعي قبل أن تلين قبضته ويفلت الذهن شارداً حائكاً بعدوه حكاية الّلمبة التي يحدقان بها، والوعي من خلفه يُلاحقه بإدراك ما يحيك، لئلا أن يضيع ويتوارى عن ناظريه ...

بات الذهنُ بجريه يرسُم وينسج حكاية الّلمبة بمخيلته، فجعلت تخيط وتُشكّل مسار حياتها من عملٍ بإخلاص لضياءٍ وإينار، حتى الهرم والعجز، حتى مكائن إعادة التدوير لتستعيد كلّ قطعة طاقتها؛ لتبدأ مرة أخرى بخلقِ صداقاتٍ جديدة وتكوين توليفةٍ متينة، تسعى للعمل بإخلاص لغريزتها الأنقى، المُتمثّلة في حبّ العطاء، فهو الفعل الأسمى والأرقى لدى كل لمبة، حتى يطعن سنّها فترمى مرةً أخرى في مكائن إعادة التدوير... وهلم جرّا. إلى أن تسأم من تكوين صداقات مؤقتة منتهاها معلوم وعطائها لبعضها لا يدوم، فما إن يُفدين لبعضهن حتى يشيخن ويتفرقن في طرقٍ لا التقاء فيها ولا تقاطع، وهذا بالطبع ليس من تمام العطاء!


كانت دائماً ما تتملك الّلمبة تلك الرغبة الجامحة في العطاء لكل شيء، دون تفريط لعطاءٍ على عطاء، ولكنّها لا تدلّ الطريق فإلى أين ومن أين تسير إلى ذلك المصير؟ قد كان كلّ ذلك قبل أن تكسر حاجز خجلها مع الوردة أدناها، فشرعت ذات يوم في محادثتها والتعرّف عليها حتى مؤالفتها وصداقتها، إلى أن حدّثتها ذات يوم عن معاناتها البائسة في دوام الأصدقاء، فلم تكن تلك فكرة جديدة لدى الوردة فلطالما فقدت أصدقاء كُثر -خصوصاً- في فصل الخريف، لكنّها كانت تتعايش مع ذلك فتحزن وتراضي حالها في هنيهة، حتى تعود وتفقد بتلةً أخرى إلى أن ينجلي ذلك الخريف، طبق صمت رهيب عقب مصارحة الّلمبة فتمنّت بكل فضائلها ومآثرها فيما لو كانت تستطيع إعادة الوقت، لتتراجع عن المصارحة تلك- حتى لو كلّف ذلك استمرار معاناتها- بعد خيبة أملها بغيبوبةٍ أصابت شفاه الوردة ، وفي الآن ذاته كانت الوردة تفُكّر باقتراح تدلوه، ليكون لكلّ كلمة تتلوها قيمة هائلة، حتى فاض من شفتيها بحماسٍ باٍلغ، اقتراح يبدو ساذجاً للمبة:

كوني بيتاً!

أجابت الّلمبة بتذاكٍ يفوق قدرة فولتات أسلاكها:

وأنا كذلك! بيتٌ بالفعل لأسلاكي!

تبسّمت الوردة بابتسامة يختبئ خلفها صيحات من الضحك الهستيري، ومسحت وجهها محاولةً كبتها وقالت:

وأنتِ كذلك، لكنّني قصدت بيتاً للورود كأن تكوني مزهرية.

استاءت الّلمبة من غموض الوردة، وكأنّها تتذاكى عليها بمفرداتٍ لم تسمع بها قط، فأجابت بلطفها البالغ:

أنا لا أفهم شيئاً مما تقولين، كيف للمبةٍ أن تصبح بيتاً للورود؟

استهل وجه الوردة فرحاً وقالت:

بيتاً للورود "مزهرية" أي كمن يحتضنني الآن، فتحملي الورود والزهور وتتصدّري أعين الناس!

قطبت حاجبيها باستنكار شديد، ثم بدأ التوتر يعتريها فأخذت تشد يديها بقوة مخافة أن يتّضح ارتعاشها، حتى كادت تتحجّر، وردّت بامتعاض:

وأسلاكي؟ لا أظن أنّ الأسلاك والورود يتوافقان، أليس كذلك؟!

 ردّت الوردة بعد أن طغت البهجة على أساريرها:

بالتأكيد لا يتوافقان، لذا عليكِ التخلّص منهم!

صُعقت الّلمبة فتحوّل توتّرها لغضب حاد، قطب حاجبيها وراح الغضب يغلي في تجاعيد جبينها وأعلى أنفها، ثم ترجم بثوران مرعب كبركانٍ صمدت حممه عقوداً في التصادم، حتى ثار ودمّر المدينة بأقبحِ الأوصافِ وأقذرِ الشتائمِ،حتى كاد يَتفجّر حلقها من تزاحم الشتائم فيه. لم تتوقّع وصول الأمر لهذه الفظاعة.

كانت الأسلاك سيدة الّلمبة، فتتحكم بها وتُسيطر عليها تماماً، فمن المعضل أن تُفكّر بنفسها في التخلي عنهم، بيد أنّها كانت مرتعبة فعلاً من فكرة الخذلان. باشرت الوردة بمحاولات إقناعها واجتثاثها من تحت الضغط الهائل الذي تضعه على نفسها، وزحلقتها من سطوة الأسلاك تلك، لتُفكّر بعقلها وتُقرّر بنفسها عن كل شيءٍ يخصّها. فصارت الوردة تصبح وتغدو وتمسي فوق رأس الّلمبة بأحاديث طويلةٍ مملة لا تنفك فيها عن الحديث في المنطق، علّ أن يقنعها ذلك. حتى سلّمت الّلمبة بالأمر-أو هذا ما تدّعيه على الأقل، فقد تكذب تهرباً من خطابات الوردة المستفزة-. فاقتنعت بكون "الحصول على ما تريد مستحيلٌ، دون التّخلي عما تريد أيضاً"-ردّدت عليها الوردة ذلك أيضاً- كانت أياماً عصيبة مرهقة على الّلمبة، فتصبح معلنةً إسلامها وتمسي كافرةً بالفكرة ذاتها. حتى أقدمت ذاك الفجر بغتةً بقلبٍ معصوبٍ وعقلٍ مُبصرٍ، داعية الله بأن يغفر لها خذلانها العظيم.


صارت حوض ورودٍ باهر! وباتت تتغنّى بانعطافات جسدها الفاتن، بعد تنظيفه وتلميعه، تقول الّلمبة-أو المزهرية- في وصفِ حالها: كما لو أنّني خرجت للتوِّ من شرنقتي، فانسلخت من قذارة الأسقف إلى نقاوة المياه، ومن ألوان الأسلاك الكئيبة السوداء إلى ألوان الفراشات الفرحية، ومن أسلاكٍ تُقرّح أمعائي إلى سيقانٍ تدغدغها ومياهٍ ترطّبها، حتى الناس، باتوا يحترموني ويحبّوني فيتغزّلون بجمال بساطتي وروعة تميُّزي، على عكس ما قد كانوا، من أن يحاولوا موازنة مفتاحي ليروا النقطة التي أقف بها بين الوجود والعدم؛ فالأسئلة الوجودية تطاردهم دائماً. في الحين نفسه، كان يخالجني شعور البرد رغم دفء المكان، وشعور فقد الأمان رغم امتلاء المكان بحراس الأمان. أشعر بأنّني فقدت الكثير من حنان ذلك المكان وصمته، فالعالم هنا باردٌ مزعج، لا تكاد تخلو دقيقته من طنينِ نحلٍ، أو نحيبِ ورقةٍ جازعةٍ من إسراف نحلة في تقبيل صديقتها.

آه ... في الحقيقة، أنّ كلّ هذا لم يدم طويلاً، فما أن هلكت لمبةٌ أخرى حتى اُستبدلت سريعاً بها وطُرحت هي في قمامة الحي إلى مزبلة المدينة، حيث تُعدم الكينونات وتُطمر لترسل حالاً نحو العدم، إن لم تكن قد أُعدمت أصلاً بخبر إقصائها من التمزهر وتشريد أملها المزهر.

هذا ما تخيلته في دقائق من مجرد التحديق في الّلمبة، تلى ذلك "بالتأكيد" انهمار أنهار الأسئلة الوجودية على دماغي، فبات يصارع الموت من الغرق، حتى تدارك نفسه وشرع في السباحة أو أنّ هذا ما يتهيأ له، وإنّما هو مسير في تيار تحركه مجموعة رياح منها الذاكرة والحصيلة المعرفية، وحتى العاطفة، بيد أنّ التحليل يقود ذلك الدماغ المسير ليُفَتت كلّ صخرة أسئلة تقابله. فباتوا يجوبون البحار الممتدة إلى اللا امتداد ويذرعون في التساؤلات بلا استملال، بحثاً وطمعاً في الارتحال إلى السؤال بمركبة الأفكار. في صخب صراعات الأسئلة (هل تستحق الاعدام بعد كلّ هذا العطاء؟ أكانت تعلم بمآلها؟ ماذا لو كانت تعلم؟! هل ستُعطي كما فعلت؟ هل كانت تُعطي لإشباع غريزتها أم لنفع غيرها؟ ماذا لو ...) منذ تحديقي بالّلمبة والباب يُطرق وأذناي لا تسمع إلا أزيز الّلمبة ونحيب وميضها ووشوشات طفيفة تخالفها، حتى طفوت على خيالي وغرقت في ذاتي، فتلاشت أصوات الّلمبة من على مسامعي ولاح لي صوت طرق باب.. طرق باب غرفتي، بترنيمة بالغة العذوبة والرّقة وكأنّ تلك النغمة هي من رسمت كلّ تلك الحكاية، بالوشوشة على أذني والضرب بالفرشاة على صفحات خيالي، قبل أن تأخذ الترنيمة في النشاز حتى كسرت بانفجار مهيب إثر اقتحام الغرفة بتحطيم الباب ...

- أهلاً يا لعين، أمسيت الدّهر طارقاً، لِمَ لا تستجيب؟!

- آآآ...

- صه! أكمل ...

كان شديد السواد حتى تحت سطوع الّلمبة، فلا يرى من وجهه غير أنفه بارزاً من قبّعته السوداء أيضاً، لا أعلم إن كانت ملابسه سوداء أيضاً أم أنّه كان عرياناً، المهم أنّه ضخمٌ جسيم طويل القامة رفيع لا تعرف إدباره من إقباله، على عكس ماكنت أنا عليه، قصيراً نحيلاً سريعاً فإن فررت هاربا قد أنجو لحظياً، لكنّه في الحقيقة سيلاحقني طوال حياتي وفي كلّ مرحلة سيكون أشنع وأفتك، مالم أتعايش أنا معه. أخذ يغرس يده اليسرى في جيبه الخلفي ليخرج كومةَ حبيباتٍ فاحمة، لينفثها بتأنٍ على جبيني لأغرق أكثر واصطدم بأسئلةٍ أعنف وأشرس. فكان يحثو وأجهش، يكب وأُّبكي، أفرّ؟ سأنوح؛ سيعود بجموح؟! لا! قد سيطر بوضوح هو في كل دبوس. أخذ يُكرّرها حتى غبت عنّي وانفصلت منّي، لأبتعد إلى أعماق نفسي الحارقة؛ لأتعذب هناك بالألم حد الهلاك، ثم أعود بتيار الّلعنة لئلا أن أموت ويتوقف ذلك العذاب. فأنا ما زلت غارقاً هنا لم أهرب ولم أسبح ولن أطفوَ حتى، ولكن سأواصل التجوّل؛ أظنني أحببت اكتشاف المكان

Join