خيوط وهمية
Phantom Thread
ومتلازمة الطفل البالغ
He is just a baby.
يبدو فيلم فانتوم ثريد من حيث الظاهر بوصفه تمثيل لعلاقة عاطفية غير مستقرة بين شخصيتين ينتمي كل منهما الى وضع ثقافي واجتماعي شديد الاختلاف عن الآخر، وعلى الرغم من أن الفيلم ينتمي من حيث تصنيفه في IMDB الى فئة الأفلام " الرومانسية " إلا أنه لا يشبه أي من الأفلام الرومانسية التي تنحصر العلاقات فيها بين شخصيتين تظهران بشكل جلي في سياق الفيلم، فالعنوان الذي اختاره كاتب الفيلم بعناية (خيوط وهمية) يحمل ابتداءً دلالةً رمزية تشكّل أول خطوة لفهم الطابع العميق لهذا الفيلم، وهي ما سأحاول قراءته بشكل متأني في هذه المراجعة.
هنالك في الواقع حالات ينتقل فيها الإنسان الى طور البلوغ متمسكًا بـشخصية "الطفل" ، وتنقسم هذه الحالات من حيث المبدأ الى نوعين فمنها ما هو بغيض ومنفّر كتلك الحالة التي نشاهدها باطّراد في عالمنا اليوم بين البالغين الذين ما زالوا يحملون سذاجة الطفل وخفة عقله الى عالم الكبار وهي المعروفة في الأدبيات السيكولوجية بـ
“ .Puer aeternus”
وقد تحدث المحلل النفسي "كارل يونغ" عن هذه الحالة في كتاباته قبل ما يقارب قرنًا من الزمان، وعلى الجانب الآخر هنالك تلك الحالة الطفولية الهادئة التي توجد لدى عدد من المبدعين في العالم، وتتسم هذه الطفولة الخاصة بكونها خفيّة وعميقة، يكاد يستحيل إدراكها إلا من خلال وسيط ( إما الفن وإما التحليل النفسي ) وعادةً ما تكون هذه الطفولة مصحوبة – على خلاف النموذج الأول - برجاحة عقل وقدرات إبداعية خلّاقة، وهي ما كان عليه “رينولدز” في الفيلم، إذ كان يتمتع من حيث الظاهر بشخصية رجولية وكاريزما عالية وعقل مبدع، غير أنه لا يعدو في حقيقة أمره أن يكون مجرد طفل.
يدور فيلم phantom thread بأكمله حول محاولات هذا الطفل البالغ للإبقاء على أنماطه الطفولية و( بوجه خاص التعلّقات الأمومية) ، حيث يدور في مجمله حول علاقة واحدة من الماضي ألقت بظلالها على الفيلم بمختلف شخصياته، وهذا العلاقة هي العلاقة رينولدز وأمه، فقد عاش ارنولدز كما يظهر في حوارات الفيلم طفولته بعيدًا عن أمه التي يحبها الى حد كبير، وعاش بين المربية القبيحة العدوانية التي ذكرها، وبين سيريل التي رأى فيها سندًا أخيرًا في عائلته، كل ذلك نعرفه من الليلة الأولى في البيت الريفي حيث كان يتبادل الحديث مع " ألما".
يظهر الرابط الواضح بين شخصيتي الفيلم الأساسيتين ( سيريل وألما ) على أن الأولى أخت والأخرى عشيقة غير أن ثمة خيط وهمي يربطه بكل منهما يتمثّل في أن كل منهما كانت من منظوره تمثل دورًا من أدوار الأمومة أما الأول فيتمثل في إدارة شؤون الطفل اليومية، في حين يتمثل الآخر في الدور العاطفي التمريضي الذي تمثله الأم في حالات الألم والمعاناة.
ومن هنا نجد ابتداءً أن " سيريل " كانت خالية تمامًا من الشعور، تجاهه وتجاه أي شيء آخر، فهي تمثل جانب صارم من العقلانية الجافّة، فتتولى الترتيبات، وتضع خطط الطعام، وتحافظ على سير العمل في المكان الذي يشبه عقله، ومن جانب آخر تمثّل الأخرى جانبًا عاطفيًا مكثفًا، وعلى العكس من الجانب الأول فإن احتياجه لهذا الجانب مقترن بالحالات التي يشعر فيها بالألم والمعاناة ينفتح فيها الى إنسان يجد فيه ما افتقده منذ سنواته الأولى من تعاطف الأم وإشفاقها.
وبعد انتهاء هذه الشخصية من هذا الدور الأمومي في حالات مرضه لا تعود صالحةً للتواجد الا من حيث كونها شخص إضافي كغيرها من العاملين في المنزل.. الى حين حدوث حالة جديدة من الألم، يشعر فيها بالاحتياج العاطفي والرغبة الماسة في الانفتاح على الآخر.
ولم يترك الكاتب مجالًا للتشكيك في هذه القناعة، حيث ظهرت " الأم " بهئيتها الكاملة في موضع واحد فقط في الفيلم ( يمثّل المجال المفقود في منظومة احتياج هذا الطفل البالغ ) وهي حالة الألم التي كان يحسها رينولدز في المشهد.
نشأة العلاقة بين رينولدز وألما :
تتذكر عزيزي القارئ المشهد الذي تعرّف فيه رينولدز على " ألما " في المقهى وكيف كان في أوائل الصباح "منفتحًا" على التعرف على أنثى جديدة..حسنًا؟
مباشرةً قبيل المشهد الذي يتعرف فيه على ألما كان رينولدز يتحدث مع "سيريل" ، كان موضوع حديثهم في ذلك النقاش هو "الأم " .. ومباشرةً في صباح اليوم التالي يتعرف رينولدز على فتاة نعرف أن ما بينها وبينه من الطبقة الاجتماعية فجوة كبيرة، ونحنُ نعرف عن رينولدز جيدًا من خلال مجريات الفيلم أنه رجلٌ حساس جدًا للنظام ولا يسمح بالمشتتات، وهذا سمة لم يكن من الممكن إغفالها على الإطلاق، ولكن على العكس مما هو معروف من أن العلاقات العاطفية لعبة خطرة من شأنها أن تحدث تشتيتات لانهائية وتغير الكثير في نفس الإنسان وبيئته المحيطة نجد أن رينولدز يتعامل مع الأمر بكل أريحية ، فلماذا؟
يكمن السبب ببساطة في أن رينولدز يتعامل مع الأنثى أصلًا "مُفرغَّةً" من ذاتها، إذ لا يكترث لما هي عليه بالفعل، وإنما يتمثل واجبها الوحيد في أن تؤدي الدور الأمومي شديد التعاطف في حالات مرضه الجسدي أو الروحي، ولذلك سعى رينولدز في الليلة ذاتها الى إطلاع " ألما " على صورة أمه، في إشارة خفية من أعماقه الى الدور الذي ينبغي لهذه الضحية الجديدة أن تحتذيه.
وهو دور بالغ الصرامة، فعندما تُجاوز هذه الشخصية الحد أو تبدأ في ممارسات الأدوار الطبيعية للأنثى ( كطلب الاهتمام ..) حتى يرسلها بعيدًا - كما حدث مع تلك الشخصية الهامشية في أول الفيلم -.. وتقوم سيريل " الأنثى الثابتة" دائمًا بهذا الدور في تنظيف المكان بعده.
وستلاحظُ في تلك الليلة نفسها أن رينولدز لم يطلب من ألما أبدًا أن تتحدث عن نفسها، فلم يعرف ولم نعرف أي شيء عن ماضيها أو حياتها السابقة، وهو أمرٌ فيه إمعانٌ بالغ في إلغاء شخصيتها، وإدراك هذا الملاحظة مهم جدًا لفهم طبيعة تعامل رينولدز مع النساء في حياته، فهذه المعاملة الغريبة للأنثى تشكّل إحدى الأكواد التي استطعت " ألما " أن تفكّها، حيث لم تستسلم قط لهذه الحالة من التفريغ الذاتي، فبتمسكّها الشديد بذاتيتها وجرأتها في الرد عليه حتى في أبسط الأمور قد لعبت دور بالغ النجاح في العلاج النفسي الذي سيظهر على البطل في آخر الفيلم.
لـيلـة الـعـشاء:
لعل أكثر مشهد صاخب في هذا الفيلم هادئ الإيقاع هو مشهد العشاء ، في تلك الليلة التي سعت فيها "ألما" أن تقيم عشاءً خاصًا وشاعريًا لرينولدز، بعيدًا عن جو البيت العام، وبالأخص بعيدًا عن "سيريل" التي حذرتها من هذه الخطوة الجريئة، فسيريل قبل ألما بسنوات قد استوعبت بطريقة غير مباشرة أنماط رينولدز النفسية.
لقد شعر رينولدز منذ اللحظة الأولى بالتهديد عندما لم يجد "سيريل" في المنزل بحيث وجد بما له من حساسية عالية ازاء الفوضى أن اي محاولة لهذه الوافدة في أن تتسلق على هذا الدور فيه اخلال بالنظام غير مقبول، وأن المكان ببساطة لن يكون قادرًا على أن يدير نفسه بعيدًا عن سيريل، ولذا فقد كان منزعجًا.. ورفضه لهذا العشاء له أسبابه التي نستطيع أن نكتشفها من نفسيته وهي على التالي:
أن فيه طابع أنثوي شخصي لا يتقبله إطلاقًا، والثاني انه يكره المفاجئة بشكل أساسي، أما الثالث وهو الأهم فغياب "سيريل" الذي يعني له دائمًا شيئًا واحدًا ألا وهو الفوضى، فوجود سيريل التي يربطه بها تعلّق أمومي هي الأخرى ضروري لاستقراره النفسي.
وتتأكد هذه العلاقة الخفية التي تربطه بسيريل في إحدى لقطات الفيلم الذي ذكر فيها "رينولدز" عبارة موجزة ولكنها جوهرية لإيضاح الكثير، حين قال بأن " سيريل على حق، سيريل دائمًا على حق " ، وهذا التعبير ينطلق من نموذج طفولي بالغ الوضوح، يعتقد فيه الطفل دائمًا أن أمه تعرف كل شيء، وأنها دائمًا على حق، ولم يتجاوز رينولدز حتى هذه اللحظة من الفيلم هذه التركيبة الطفلية في أعماقه.
قدسية الفستان عند رينولدز:
ثمة موضوع جوهري آخر في هذا الفيلم يشرح شخصية رينولدز المعقدة وهو " قدسية الفستان "، الذي يترك إشارة واضحة الى أن الفيلم يدور حقًا حول علاقة سيريل بأمه، فتقديسه "للفستان" الذي يتجاوز الحد الطبيعي يحمل دلالة عميقة، ولا أحسبها تلك المتعلقة به بوصفه أحد منتوجاته الفنية، أو للمحافظة على "البراند" ، وإنما لما يشكله الفستان في روح رينولدز من معنى، وهذا يعطي انطباع الى أي حد لا يتصالح مع ابتذال قيمة الفستان. فاستطاع كاتب السيناريو بذلك أن يعطي حقيقة كاملة ومؤثرة بشكل خفي عن الشرخ الذي حدث في نفسية الطفل رينولدز جرّاء زواج الأم، وارتباط الألم بالفستان يتأكد أكثر ما يتأكد من خلال المشهد الذي تراءت فيه "الأم" بالفستان لرينولدز عندما كان مريضًا في منتصف الفيلم.
نجاح ألما بوصفها محللًا نفسيًا:
لم يكتف فيلم فانتوم ثريد فقط بعرض حالة معينة لعقدة نفسية تجد أساسها في تجارب التحليل النفسي، وإنما يتمثل ذكاء الفيلم الجوهري في كونه قد وفّر العلاج النفسي التلقائي بطريقة مبدعة وذكية يكاد لا يلاحظها إلا قليل، حيث كانت " ألما " تمارس طوال الفيلم دورًا عبقريًا تمثّل في إصلاح الرجل من أعطابه الروحية وذلك عبر ثلاثة طرق:
أولًا "إدامة التعلق" من خلال خلق الألم: وهذا التعلق الذي قد يبدو من حيث الظاهر تأكيد على حالته المرضية إلا أنه يشكل بالفعل وسيلة لحلحلة عقده النفسية إذ يسهم بشكل واضح الى تعميق العلاقة بينه وبين "الآخر" ويظهر الفيلم بطريقة ذكية كيف أن هذه الحالة الخاصة قد أسهمت في علاجه النفسي الى حد كبير.
ثانيًا من خلال الإبقاء على ذاتيتها – طوال مجريات الفيلم حتى في حواراتهم القصيرة - رغم أنفه: وهو الأمر الذي يغضبه بشدة ولكن وكما ذكر "كارل يونغ" ( كل شيء يغضبنا من الاخرين يقودنا إلى فهم انفسنا ) وبالتالي كان من الضروري أن نفهم هذه الشخصية من خلال انزعاجاتها خاصةً عندما تتصرف ألما بشيء له طابع شخصي.
ثالثًا وأهم من ذلك كله إدراكها الفطري المباشر منذ أول لقاء بينهما في البيت الريفي لطبيعته الطفولية وتشخيص حالته على نحو دقيق، فنحن نرى في تلك الليلة التي تشرح كل ما سيحدث لاحقًاـ كيف استطاعت ألما أن تكشفه أمام نفسه من خلال الجملة القصيرة التي ذكرتها " أنت تمثّل أنك قوي ". إذ تكمن أهم أدوات التحليل النفسي في الكشف عمّا يتوارى في اللاوعي، فعملية الكشف وحدها قادرة في بعض الحالات على أن تشفي الإنسان، وهذا ما برعت "ألما" فيه من بداية الفيلم.
وهو الأمر الذي نستطيع أن نستنتج منه أن بقية النساء السابقات في حياة رينولدز قد فشلن في تحقيقه، حيث استطاع بما له من هيبة حضورية ومكانة اجتماعية أن يخفي حقيقة ما هو عليه، ومسألة الإخفاء هذه كامنة في طبيعته وقد أشار إليها كاتب الفيلم بذكاء من خلال إظهار ما يفعله في الفساتين التي يصممها حيث اعتاد دائمًا أن يخفي فيها توقيعًا ما، غير أن "ألما" استطاعت ببساطة أن تفك شيفراته بأكملها وتصنع منه رجل سوي كما يظهر في آخر الفيلم بطريقة غير مباشرة.
ذكرنا في أول هذه المراجعة أن رينولدز كان في حاجة ماسّة الى التعاطف الأمومي في حالات مرضه الروحي والجسدي، غير أن مجريات الأحداث في الفيلم تبرهن أيضًا أنه كان على استعداد للدخول في حالات مرضية مصطنعة من أجل خلق الاحتياج في المقام الأول، فهو يحتاج الى أن يحتاج الى هذا التعاطف، ويسهم المرض في خلق هذه الحاجة التي يحبّها الى حد عظيم، فهي من جانب توقظ فيه هذا الميل الخفي وتحقق قدرًا من الإشباع الروحي، ومن جانب آخر تسهم في خلق علاقة عميقة بينه وبين "الآخر" ويظهر الفيلم بطريقة ذكية كيف أن هذه الحالة الخاصة قد أسهمت في علاجه النفسي الى حد كبير.
إن الفيلم بأكمله يدور حول صراع خفي بين رينولدز الذي يحاول أن يبقي على طفولته النفسية وتعلقاته بالأم الغائبة من خلال استحضار ما تمثله، وبين "ألما" الريفية التي لعبت دور المحلل النفسي الذي يحلّ عقد مرضاه، والتي تحاول دائمًا أن تكسر أنماطه، وهذا دور فيه من البلاغة السايكولوجية الشيء الكثير، فأعظم التصحيحات النفسية تأتي عادةً من كسر الأنماط القائمة للشخص المريض.
وقد نجحت في ذلك ببراعة كما ذكرنا.
وأعتقد أنه لو استمر الفيلم لوجدنا أن "رينولدز" قد تخلى تمامًا عن التعلق بـ "سيريل"، واختط لنفسه خطًا بعيدًا عن هذا التعلق الأمومي الجاف، فالرجل قد استطاع بفضل هذه الفتاة الريفية أن يكسر أنماطه الطِفلِية السابقة واستحال الى رجل له زوجة وابن سيحمل مسؤولياتهما معًا.
يبدو لي فيلم فانتوم ثريد من الأفلام البسيطة والعميقة في الآن نفسه، فهو من ناحية لم يحاول أن يعقد الأمور أو أن يظهر صعوباتها بشكل فج، فالمشهد بأكمله لا يتضمن أي أحداث تشوش إيقاعه، ولا أي مبالغات درامية من أي نوع. بسيط البنيان، سلس الإيقاع، يستمر بهدوء من البداية الى النهاية، تاركًا للمشاهد الفطِن الحرية في أن يتمثل ما يحدث في الأعماق، وهذا أهم أسباب نجاحه الفني، غير أن استسلام البعض للمشهد دون التوغل فيه يبعدهم أكثر عن إدراك الجمال الكامن فيه.
في السينما لستَ بحاجة الى ان تضفي عبارات أدبية رنانة على لسان شخصيات الفيلم، ولا أن تفتعل النقلات الدرامية الحادة لكي تجعل من الفيلم "عميقًا". يكفي أن يكون كما كان هذا الفيلم، فأكثر الأشياء عمقًا هي تلك التي لا تبدو كذلك.