ما وراء السجون

أفنان



يعرفُ الإنسان بني جنسه بالوداعة والإحساس كجوهرٍ متأصلٍ فيه، لكن ذات يوم ستقع عينه على الإنسان الذي يشغلُ بقعةً نائية، تلك البقعة التي لا يُبصرها الكثير ممن لا يلتصقُ بها، أكانت بقعة؟ أم أنها خندقٌ وُضع ليقتلع الإنسان أينما وُجد؟ حينها سيتعرّف الإنسان على الجانب الممسوخ منه، ستكون تلك الضربةُ الأولى التي تصيبه من بني جنسه وهو مستيقظ، الصفعة التي لم يحسب أبدًا أنها ستهبط على وجنته ذات ليلة
إنّ الحبس في زنزانةٍ تلفٌّها الظلمة بحدِّ ذاته قاسٍ ومؤلم، فكيف عندما يدرك السجين حقيقة أن من يقوم بتجهيز سوطه ليخبطه على جسده هو إنسانٌ مثله، يحملُ في صدره الأيسر قلبًا، ذلك القلب يقفز ولا يهدأ بفضل النبضات، وبين ثنايا أضلعه تختبئ روحه، كم تبدو الخيبة شاهقة، وكم يتدفّق الإحباط في جسده حتى يكون دَمه، ونفَسه، وتعتريه البلادة إزاء المشهد اللاإنساني في الإنسان الذي يمثلُ أمامه.ـ

أيُّ الأمور الفظيعة تستحقُّ أن يتبنّاها السجين كأكبر مصدرٍ لشعوره بالألم؟ أتلك الضربات التي تغلّف سائر جسده؟ أم الشتائم التي تستهدف روحه؟ أم خيبته الكبرى عندما يبصر جانب البشرية الآخر، الجانب الذي لطالما ظنَّ أنه غير موجود أو ربما في منطقةٍ بعيدة، في بلادٍ ليست له؟
سيبكي السجين ذاته آلاف المرّات، يبكي جسده الذي سيضطّر لا محالة إلى التخلّي عنه لسجّانه الذي يحوم حوله كذئبٍ يأكلُ فريسته ببطء، يُقسّمها على الأيام والليالي والسنوات، كما لو أنها قوته الوحيد الذي سيهبه حصانةً ضدّ الموت، سيرثي السجين جسده، أشياءه المسلوبة منه، مساحته التي تضيقُ كلّ ليلةٍ عليه، عائلته، أصدقاءه، أحلامه وما هو أكثر من ذلك، لكن شيئًا ما، سيبقى قادرًا على إشعال شرارة الغضب داخل السجّان، سيبقى صامدًا كشعارٍ أخيرٍ في وجهه على أن السجين هنا، لا يزال يصدُّ الهزائم، ذلك الشيء يعكس جوهر البشريّة، ذلك الشيء هو الإنسان الذي بداخل السجين، الإنسان الذي فلت من بين يدي السجّان، والذي يكونُ المستهدف الأكبر في حياة السجين، إن للسجّان عيونٌ حادّة، تلقط كلّ الأشياء التي تحفّزه على تسديد ضرباته بضراوة، وما إن تلمح عيناه صورة الإنسان المتكامل في روح السجين، لا يتورّع أبدًا عن توجيه ضرباته للإنسان المتواري، للإنسانيّة كلّها، لن يكون بوسع ذلك السجّان أن يتغاضى عن كلّ ما يذكّره بإنسانيّته المفقودة، إنها تُثير مواطن خوفه، وتهدّد ذاته المهشّمة، إن الإحساس بالرحمة والرّقة والحُب والرأفة وكلُّ الأحاسيس التي تشكّل الإنسان بداخلنا باتت مندثرة بالنسبة للسجّان، وتلك الدموع التي تتأرجح في أعيننا صار مشهدًا مطمورًا ومحذوفًا من ذاكرته.ـ
إن جلد السجناء المتكرّر، وصراخهم الليليّ الذي يخترق جدار الأرواح بسهولة، ودماءهم التي تغطّي أرضيّة الممرّ والزنازين، وتآكل أجسادهم المستمر، وتحويلهم إلى أرقامٍ كتعريفٍ لوجودهم، ما هي إلا مشاهدٌ خُلقت بدّقة لتجريد السجين من كلِّ أشكال الإنسانيّة، إنها مشاهد تُربّي السجين يوميًّا على البلادة، على فقدان الشعور، على التخلّي عن الجزء النابض فيه، عن روحه


تعود بي الذاكرة إلى تجربة سجن ستانفورد التي قامت على يد عالم النفس فيليب زيمباردو عام 1971، إذ هيّأ بيئة مماثلة لبيئة السجون، تقدّم الكثير من المتطوعين لإجراء التجربة ولكنه عمل على الاختيار الانتقائي، فاختار عيّنته بدقة، قسم المتطوّعين إلى فريقين، فريق الحرّاس وفريق السجناء، تم تسليم الحرّاس كل ما يساعدهم ليقوموا بالدور من ملبسٍ وعِصيّ، بينما أعطى السجناء أرقامًا لتكون شكل هويّاتهم الجديدة، وسلّمهم لباس السجن، بدأ الحرّاس بالمناوبة خلال اليوم لمدة ثماني ساعات للفترة الواحدة، وأصبحوا يتعاملون مع أرقام لا أشخاص لديهم قيمة وحقوق. كان من المقرّر أن تستمر التجربة لأسبوعين، ولكن كيف جرت الأمور بين الحرّاس والسجناء المتطوعين؟ 
بدأ المتطوعّون بالتأقلم مع أدوارهم الجديدة، وبصورةٍ سريعة تماهى المتطوعّون كحرّاس بدورهم المنوط بهم، تقمّصوا الدور حتى أصبحوا يعيشونه بشكلٍ حقيقي لا كتجربة، أصبح تعاملهم مع السجناء قاسٍ وعنيف، فقد كانوا لا يتردّدون في توجيه الضربات وفرض العقوبات الجسديّة، ويتلفظون بأشنع ألفاظ السباب والإهانات، وغيرها من السلوكيّات التي جاوزت حدّ التجربة لتنتهي بغضون ستة أيام عوضًا عن أسبوعين. إن هذه التجربة تمكّننا من استكشاف أبشع جوانب الإنسان، وقدرته السريعة على التخلّي عن شعوره وإحساسه بالآخر، إنها تُعيدنا إلى السؤال الفلسفيّ: "هل البشر أشرار، أم أخيار؟" ذلك السؤال الذي ليس له جواب 


لا شيء أقسى من معركةٍ يخوضها الإنسان ضدّ الإنسان، ولا يمكننا نحن الذين لم تلفحنا ولو من بعيدٍ رائحة السجن، أن نتصوّر مدى فظاعة الإنسان، أن نشهد الوحش الذي استيقظ داخله، وأن ندرك حقيقة أنه في ليلةٍ ما، يستيقظ بشريٌّ آخر، نازعًا عنه إنسانيّته، نافضًا عن روحه المعنى، ليتوجّه نحو زنزانةٍ ما، ويبدأ في ممارساته اليوميّة التي تُغلق الباب في وجه المعنى من أن يكون المرءُ إنسانًا
بينما يتقلّب أحدهم على فراشه محاصرًا بجدرانٍ حديديّة صلبة، يتقلّبُ أحدنا على فراشه محاصرًا بجدران روحه، وبينما يكون الأوّل محكومًا عليه بقضاء مدةٍ غير معلومةٍ في زنزانته، يحدث أن يكون الآخر الحاكم والمُحاكم، السجّان والسجين، الذي ينتهي بإصدار حكمٍ على حبس ذاته داخل ذاته، ولا يدري حتّى متّى تنتهي مدّة الحبس المتواصل، ليغادر تلك الجدران التي تحاصره أينما ولّى وجهه


قد نحبس أنفسنا في فكرةٍ فنظلُّ عالقين بها دون أن نشعر، تمضي الحياة ولا نمضي، نتمحور حول تلك الفكرة أو ذلك الشعور، ننغلقُ ونتكوّر، ننفخ فيها من أرواحنا، ونشاركها جزءًا ليس بالهيّن من هويّتنا، حتى نصبح غير قادرين على التعرّف بأنفسنا إلا من خلالها، نستمسكُ بها كما لو أننّا نستمسكُ بحبل النجاة، ويا للأسى عندما نُدرك أنّنا طوال الوقت نلتفُّ حول أعناقنا بواسطة تلك الفكرة إلى أن نختنق.ـ
إن من أكثر ما يسجن به الإنسان نفسه هو الخوف، فأن تكون سجين مخاوفك، يعني أن تظلَّ ثابتًا في نقطةٍ ما، إلى الأبد، ما دمتَ لم تتحرّر. إن الخوف يأكل من حياتك القادمة، إنه يُحيطك بدوائر غليظة باسم الحماية والأمان، لكنها في الحقيقة، ما هي سوى دوائر خساراتٍ مستمرة من تردّدٍ وتضييع فرصٍ وتقزيم الذات أمام الحياة، وسقوط الوقت. إننا نتعفّن يومًا بعد يوم بواسطة أفكارنا ومشاعرنا التي تحبسنا داخل ذواتنا، المكانُ الذي نعرفه ونجهله، لننتهي أخيرًا كسجناءٍ في بلادنا.ـ
كلّما مرت على مسمعي كلمة سجن، تخطر على بالي كلمة عفن، وأكاد أجزم أن مرادف السجن هو العفن ولا شيء غيره. إن السجون تسعى لتحويل كلّ ما في الإنسان من جسدٍ وقلبٍ وعقلٍ وروحٍ إلى قطعٍ متعفّنة، لا يعمل على محوها، بل يمنحها شكلًا آخرًا من الوجود، ذلك الوجود الخاوي، الذي لا يحملُ أحدًا على سطحه الموبوء غير السجين، إنه المنفى الذي يرتدي وجه الوجود، إنه العفن الذي لا يتحلّل.ـ

ماذا عنكم أصدقاء النشرة الأعزّاء؟ ما هي الكلمة التي تقفز في أدمغتكم حال سماعكم لكلمة "سجن؟" تفكّر في تلك الكلمة، تفكّر في نفسك، واشعر بالإنسان، بعيدًا كان أم قريبًا، سجينًا أم طليقًا، إن الشعور بالآخر هو لُبُّ الإحساس، وأصلُ الرابطة الإنسانيّة.ـ

Join