بين التمسك والتخلي

أفنان



يعيش الإنسان حياته حاملًا في قلبه المبادئ والقيم والأخلاقيّات والقناعات ورؤاه تجاه الحياة، يكبر وفي كلّ سنةٍ يتجذّر كل ما سبق بأعماقه، تتمحور حياته حول عائلته وأشخاص قصدهم بانتقاءٍ شديد يشاركونه ذات المبادئ والرؤى ولا يُخالفونه إلا بأشياء صغيرة. تمضي السنوات إلى أن يكسب الفرد ثقةً بذاته، يرى نفسه كفردٍ ثابتٍ خلف مبادئه، يثق بقناعاته التي اختارها وبأنها تنتمي إليه، ويفوته أنه قد عاش طوال حياته في منطقةٍ آمنة، تُعزّز وتدعم معظم ما يؤمن به، لم يتعرّض إلى الصورة المناقضة لذاته، لم يُمتحن في إيمانه ذاك، ولا في تلك المبادئ، ولا الأفكار ولا التوجّهات، كان في دائرةٍ تُغذيه وتمنحه شعورًا بأن كلّ الذي في داخله: ثابتٌ وحقيقيٌّ وأصيل.ـ


عندما يخرج المرء من دائرته المليئة بالنُسخ، ويخالط جماعةً تناقضه في مستوى تديّنه مثلًا، أو تخالفه في حدوده الكبرى، رؤيته للحياة وفلسفته الخاصة به، ذائقته البسيطة، لباسه ومظهره، من أعظم الأشياء وحتى أحقرها، سيشعر الإنسان بالتهديد على الصعيد اليوميّ، تهتزّ كينونته، صورته الذاتية تلك التي وضعها أعلى الرفّ في بروازٍ ضخمٍ وكبير، سقطت وانكسرت، قد يصل إلى صورةٍ لا تُشبهه من فرط التماهي وسرعة التخلّي، بينما يعرف بأعماقه، أن شكله الحاليّ لا يمثّله، لأنه لا يستطيع الارتياح والمُضيّ بذلك الشكل، صورته الجديدة لا تجيء على مقاس روحه. وبعد اعتقادٍ دام لسنوات طويلة بأنه يعرف ذاته، يتفاجأ بواسطة جماعةٍ ما أو شخص، بأنه لم يعرف ذاته أبدًا. قد يلتقي بتلك الجماعة التي تسير بعكس اتجاهه في واقع حياته اليوميّ، وقد يلحظ وجودها -بعد تفحصٍ شديد- في مواقع التواصل الاجتماعيّ، وعندما يُبحر في ذاته، سيجد أن جزءًا من مبادئه المفقودة أو المكتسبة حديثًا يعود إلى ما يراه ويسمعه في هاتفه الذي لا يتجاوز حجم كفّه، وسيتوصّل إلى استنتاجاتٍ صادمة، فهو الذي لم يكن يرى مدى تأثير الآخرين عليه، ينتبه اليوم إلى أن من يقف خلف حصوله على هذه الأخلاقيّة الحديثة هم عدّة مغردين يكررّون تغريداتهم كلَّ يوم، بذات النبرة وامتداد الصوت، على أغصان تويتر.ـ


بعد أن يخالط الإنسان ما شاء الله من جماعاتٍ لا ينتمي إليها، ويتصادم مع مفاهيمها وتوجّهاتها المعاكسة لفكره، وبعد أن يقع عليه التأثير الناجم من ملازمتها، يدخل آنذاك في مرحلة الصراع، إذ يبدأ بالبحث عن ذاته، يشعر بالضياع لأن المظهر الجديد الذي تبنّاه على أساس تخلّيه عن مبادئه وقيمه يضيق به ويخنقه، يبصر ضعف تمسّكه وأي المناطق التي قُصفت ونُسيت، هذا المنعطف الضخم الذي حدث له في حياته، والذي من الضروريّ أن يحدث، يساعده في معرفة ذاته حقّ المعرفة واكتشافها على حقيقتها، ويمنح الفرد صورةً شاملةً لنقاط ضعفه التي تتمثّل بقيمٍ وقناعات ومبادئ تخلّى عنها، مقابل نقاط قوّته التي تتجلّى في ثباته، هذه الصورة تساعد المرء على إعادة تقييمه لذاته، وعلى تحديد أيّ تلك النقاط الضعيفة الأكثر أهمية، والتي تحتاج لإعادة ترسيخ وتثبيتٍ حقيقيّ.ـ


إن المسألة ليست بتلك البساطة التي يقول بها الكثير من الناس: "الصاحب ساحب" بقدر ما أنها تتمركز حول حساسيّة الإنسان الشاهقة نحو التأثّر بالآخرين، لن نستطيع نزع تلك الحساسيّة، جزءٌ أصيل من تكويننا البشريّ، سنظلُّ رغم كل شيء نفعله لنحمي ذواتنا، نتأثر، ونؤثر، بكلّ ما يحيط بنا. إن للجماعة أثرٌ هائلٌ في تسيير حياة المرء، وفي غرس البذور الفكريّة داخل رأسه، ومع ذلك، سيُتاح للمرء بعد تأمّلاته في ذاته أن يختار أيَّ أفكارٍ تلائمه، وأيَّ أفكارٍ يودُّ الخلاصَ منها ، وسيتمكّن ذات يوم من خلق أفكارٍ خاصّةٍ به، ويمضي خلف ما يريد، لا شكّ أن آثار البذور القديمة ستظلُّ مستمرة ولن تزول تمامًا؛ لكن المساحة الكبرى ستكون لأفكارك، وللأفكار التي تودّ اعتناقها والإيمان بها.ـ


ينبغي علينا أن نُعيد تعريفنا لذواتنا دومًا، نعيد تقييم أفكارنا ومبادئنا وتوجّهاتنا، أن نبحث عن طرقٍ تساعدنا على تأصيل وتجذير الأشياء التي نؤمن بها لكنها أصبحت مهزوزةً بواسطة معاشرة الآخرين المناقضين، أن نسأل أنفسنا باستمرار: هل نحنُ نحن؟ أم أننا صورة طبق الأصل للآخر الذي تتشابك يده بيدنا؟ أن نبحث عن أنفسنا دون اشتراط العثور عليها بسرعةٍ عاجلة، فبالنهاية لن نتمكّن من العثور علينا تمامًا، إن أجزاءنا مبعثرةٌ على الأيام والشهور والسنوات، وفي كلّ يوم نمسك قطعةً جديدة من ذواتنا، مثلما نمسك قطعةَ بزل


قد تضيع قطعٌ كثيرة، وقد تفوتنا أكثر، غير أننا، كلّما تقدّمنا يومًا، مستعينين بتأمل ذواتنا ومراجعتها، سنكسب قطعًا أكبر، تعوّضنا عن القطع التي تساقطت منّا ونحن نركض في بحثنا عن العيش، يستمر الإنسان في جمع قطع روحه، لن تكتمل الصورة، لن تكتمل الرؤية، إلّا عندما نموت، على هذا الأساس تكون لعبة البزل خاصّتنا، ومن خلال هذه اللعبة، نعيش الحياة. ـ

Join