ورطة الكمال الساحقة !

رولا عبدالرحمن



“الكمال أمر اعتباري، فما هو كامل اليوم قد يصبح ناقصا غدا، وماهو كامل في نظرك قد يعد ناقصا في نظر غيرك، والذي يتحرى الكمال فيما يعمل يكثر تردده فيه، فهو لا يكاد يقر على رأي حتى يتراءى له رأي آخر، ولا يستحسن شيئا حتى يبدو له وجه جديد من ذلك الشيء فيصرفه عنه .

علي الوردي ، خوارق اللاشعور


بت أدرك تماما أن إنسان العالم الجديد لا يكف عن البحث والتورط في دوامة الكمال، فقد  يدلو بدلو فكرة ما، منطق ما، أسلوب حياتي جديد ، ليحس بنشوة الفوز ونيل إحدى المراكز الأولى  
لكن ما أن يتراجع به الزمان قليلا لأدرك أنه قابع في سباق وهم الكمال وحتميته والتي أشعرته في بادئ الأمر أنه فائز أو حتى منتصر من اللا شيء واللا جدوى . 
حيث تقول الأسطورة أن جلجامش مات باحثا عن الكمال في حتمية الخلود .. فهل نموت نحن كجلجامش أو نموت بمثالية الكمال  كراقصة البالية بفيلم البجعة السوداء .. أم نموت وكلنا رضا بأن لا كمال للبشرية، فالبشرية خلقت ناقصة ولتعويض هذا النقص وجد التنازل عن فكرة الكمال الساحقة ليحل محلها السداد والتقارب.  

 
عن كوننا جلجامش 
 
نحن لسنا جلجامش .. لكننا قد نكون في مقتبل ورطتنا كجلجامش  
 كان جلجامش يبحث عن خلوده بهذه الدنيا فأراد أن تكون هذه الدنيا كاملة و أن يخلد فيها ولا يموت، بل وكرست الأسطورة نفسها للبحث عن سر خلود البشرية 
لتبدأ قصة جلجامش كونه حاكم طاغية، فاسد، قوي البنية، ولد من مزيج من والد بشري ووالدة آلة كما تقول الأسطورة 
و كان يظلم وينتهك الأعراض ويزعج قومه بطبله في الليالي الطوال! لكن لماذا الطبل تحديدا؟! ( الحقيقة لا أعلم  )، تتابع أحداث قصة  الأسطورة ليسأم القوم من جلجامش الحاكم فيلجأون للآلهة، وبعد مفاوضات عدة هل يعذب جلجامش، أو يموت أو تنزل عليه لعنة ساحقة، ليتوصل الآلهة بنهاية المطاف إلى إرسال أنكيدو بشري يشابه جلجامش بالبنية الجسدية، حيث أرادوه أن يوجد ليكون ندا لجلجامش، ليسهو جلجامش عن طغيانه المستبد ويكون مشتغلا بمحاربة أنكيدو وتحديه بالقوة الموهوبة لكليهما. 
فانكيدو وجد  في بادئ الأمر في غابة اكتسب منها السلوك الحيواني المعادي، ليكون رث الهيئة، يأكل الأعشاب، يمشي كهيئة الحيوان، 
(وكأن حكاية الرسوم المتحركة لكلٍّ من طرزان وماوكلي تشبه أنكيدو في أسطورة ملحمة جلجامش)، يتقابل كلٌّ من جلجامش وأنكيدو بعد أحداث عديدة لتشتعل مواجهة قتال بين جلجامش وأنكيدو، وبدلا من انتهائها بالعداء المضني، تنتهي بالصداقة المتينة. 
ليعيش كلٌّ من أنكيدو وجلجامش في جو صداقة خلدتها الأزمان. "  علاقة وطيدة … مكتملة الأركان … ومتوافقة في القوى البدنية، دامت طويلا ومديدا، ليموت أنكيدو وتكون ملحمة الصداقة محملة بالدموع والأحزان والوجع الذي قصم ظهر البعير. 
بكى فيها جلجامش كثيرا.. رقد أياما طويلة بجانب صديقه أنكيدو حتى تعفنت جثته بجانبه ليقول فيها كلماته المحملة بالدموع 


"
آه لقد غدا صاحبي الذي أحببت تراباً
وأنا سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين
فيا صاحبة الحانة
وأنا أنظر لوجهك يكون بوسعي أن لا أرى الموت الذي أخشاه وأرهب
"

ليرد عليه بحوار فلسفي ملحمي يقول لنا الكثير

 
"
إن الحياة التي تبغي لن تجد
فليكن كرشك مليئاً دائماً
وكن فرحا مبتهجاً نهار مساء
وأقم الأفراح وارقص والعب
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل رأسك واستحم بالماء
دلل صغيرك وأفرح زوجتك
فهذا هو نصيب البشرية
يا جلجامش إلى أين أنت سائر؟
لن تجد قط الحياة التي تنشد
فالآلهة عندما خلقوا البشر
كتبوا عليهم الموت واحتفظوا بالخلود لهم
يا جلجامش دع معدتك تكون ممتلئة
وانشرح ليل نهار
"


تمضي الحياة بجلجامش بدون رفيقه أنكيدو ليحمل على عاتقه البحث عن سر خلوده بهذه الدنيا، ليبحث عن كيف يخلد وكيف لا يموت أبدا،  فيذهب إلى الحكيم أوتنابشتم والذي يعطيه سر الخلود والمتمثل بنبتة تخلد البشرية عندما تؤكل من قبل الناس في ذلك الزمان،
يحمل جلجامش النبتة بكل حماسة وفخر ليقف عند بحيرة صغيرة يغتسل من مياهها ويستريح، وفي لحظة سهو تسللت بجانبه حية لتأكل نبتة خلوده وخلود قومه، فيدرك جلجامش نهاية المطاف أن لا خلود للبشرية، فقد خلقت البشرية من اللاخلود واللاكمال. يعود جلجامش لقومه وسر الخلود يؤرق لياليه وأيامه، يعود بقلب جديد ليدرك أن الخلود قد يكون متأرجحا بين أنس الرفيق، وبين السمعة الطيبة ىفعاد لقومه وحسب إحدى المراجع أنه عاد ليخلد نفسه بأعماله الصالحة ولكونه حاكم عادل قريب لقومه.
وفي هذا الصدد كُتبت تلك الكلمات لجلجامش بل قد تكون لنا نحن يا معشر البشرية جميعا:


"
عد إلى موطنك أيها الملك
وتقبل المحتوم بطيب خاطر
تذكر هبات الآلهة التي أمطرتها عليك
وكن شكورا من كل ذلك
وفكر أن تتمتع بنهارك وليلك
عش في قصرك المنيف
وخض حروبك الكبرى
وكل واشرب بفرح
اتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها
إنها تجد المسرة في أحضانك
وانظر إلى الصغير على يدك
هكذا ستقضي كل أيامك
وتقبل طير الموت
"



ماذا عن كوننا بجعات سوداء في رحاب الحياة 
أو كراقصين باليه … في فيلم البجعة السوداء  

 
إن ركضنا المستمر نحو المثالية أو الكمال قد يتحول لعاهة نفسية يدخل في صلبها سلسلة مديدة من (قلق .. هلع .. نقص في الثقة،  وغيرها الكثير) من  المشاعر القاتلة لروح البشرية والتي قد تأفك بصاحبها للموت … كما ماتت راقصة البالية في فيلم البجعة السوداء نهاية العرض المسرحي الراقص والذي أدت فيه دور رقصة عرض (بحيرة البجع) والذي كان  يشبه الملحمة المسرحية المبهرة والتي تبهرك وأنت خلف جهازك المحمول أو حتى شاشة السينما العريضة -والتي أحبها كثيرا-. نينا راقصة باليه بسيطة تسعى للكمال، تخوض في نزاعات شخصية نفسية  للوصول لحالة الكمال، حيث تود أن تعتلي خشبة المسرح كراقصة باليه (كاملة / مثالية) مما جعلها تعاني الكثير، وجعل شعورها النفسي يتخبط بين الكثير لينهي الفيلم بعد أداء مسرحي باهر مثلت فيه شخصيتين متمثلتين بـ البجعة البيضاء والسوداء، والذي كان بين ازدواج جانب الخير والشر، بين الرقص الرقيق والرقص الخارج عن المألوف المعتاد، بين الخيال والاعتياد 

 
لينتهي الفيلم وعيناها محملة بالدموع وجسدها عليه أثر جرح دامٍ جَرحَت فيه نفسها لتحس بشعورٍ ما يجعلها تمثل الرقصة بحرفية. وما بين رقصة الباليه وسقوطها الأخير بالمشهد الختامي -الذي تكلل بمرحلة ما بين الدمع والدم ودورانها الرشيق كراقصة باليه- سقطت و قالت جملتها الأخيرة: 
 

" لقد شعرت بالكمال .. لقد بلغت الكمال "
I feel perfect ..i was perfect




إذن كيف ننجو من ورطتنا؟  
والأهم كيف نسمع لطاغور بآذان صاغية  ؟
 
يقول طاغور الروائي المسرحي، والشاعر البنغالي :

 
"
آه يا روحي ..
لا تطمحي إلى الخلود
بل استنفذي حدود الممكن
"

 
حيث كتب كثيرا طاغور عن الحياة والحب والموسيقى لتمتزج مكتوباته بأن الحياة حلوة لذيذة لا خلود فيها، لكن حبها المستمد من ناسها وطبيعتها ومشاعرها مقرون دائما بالموجود والممكن.
 أخيرا كونوا بخير واسعدوا بما تحبونه ويحبكم، اقرؤوا قصيدة طاغور المزودة لكم بنهاية النشرة  بكل جوارحكم، متمنية لكم أياما طيبة سعيدة راضية.

 
"
لقد أحببتُ هذا العالَمَ،
وتعلَّقتُ به بكلِّ وَترٍ من أوتارِ كياني، مثل النَّبتَةِ المتسلِّقةِ،
وطافَ في وجداني نورُ القمرِ وظلمتُه، الممتزجان بالمساءِ، وذابا فيه،
بحيث أمست حياتي والكونُ واحدًا، في نهاية حياتي.
إنّي أُحبُّ نورَ العالمِ، وأُحبُّ الحياةَ في ذاتِها.
ولكن، ليس أقلَّ حقيقةً أنَّ الموتَ واجبٌ عليَّ.
فذاتَ يومٍ، ستتوقّفُ كلماتي عن الإزهارِ في المدى،
وستكفُّ عيناي عن الاستسلامِ للضياءِ،
ولن تسمعَ أُذنايَ، بعدُ، رسائلَ الليلِ السرِّيَّةَ،
ولن يهرعَ قلبي مستجيبًا لدعوةِ شروقِ الشمس الصاخبةِ،
ولا مفرَّ لي من الانتهاءِ بنظرةٍ أخيرةٍ، وبكلمةٍ أخيرةٍ.
وإن كانت الرغبةُ في الحياةِ حقيقةً كبرى،
فالوداعُ النهائيُّ هو حقيقةٌ كبرى أُخرى،
ومع ذلك، فلا معدى عن قيامِ تناغمٍ بينهما،
وإلاّ لما احتملت الخليقةُ، طويلاً، وببسمةٍ، فظاعةَ الخديعةِ،
وإلاّ لكان النورُ قد اسودَّ، مثلَ زهرةٍ التهمَها الدودُ.
"

Join