بلاد ما وراء النهر
نادر الوثير
تاريخ أمة محمد ﷺ حافل بإنجازات يتأملها العقل بكل دهشة واستغراب، بلاد ما وراء النهر هو أحد تلك الأماكن الباهرة التي سطرت فيها يد القائد الباهلي أعظم فتوحات الإسلام، فأصبحت بلاد ما وراء النهر منزلا لدين الإسلام، ودرة يهيم في حب أرضها كل مهاجر وزائر، وقبة لمن أراد طلب العلم حتى ازدحمت الحلقات بالمساجد، وصروحا قائمة في كل ركن من أركان مدنها شاهدة على تاريخ يتفاخر به كل لسان ناطق.
مر على بلاد النهر (طاجاكستان وأوزباكستان) بعد فتحها ممالك ودول وحقب عدة وهي:
الحكم العربي على يد الدولة الأموية ثم العباسية، وقد أنجبت بلاد ما وراء النهر علماء لهم شهرة إنجازات كبيرة في المجال الشرعي والتجريبي في تلك الحقبة، مثل الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح في بخارى، وفي مدينة ترمذ العلامة أبو عيسى الترمذي صاحب السنن، وفي خوارزم أشهر عالم في الفلك والرياضيات والجغرافيا محمد الخوارزمي وغيرهم الكثير.
العصر الساماني الفارسي ويعتبر هذا العصر من أزهى العصور التي عاشتها بلاد ما وراء النهر، لا سيما بخارى التي اختارها آل سامان لتكون عاصمة بلادهم، وكانت هذه الدولة تبعا للخليفة العباسي ببغداد. وأشهر رواد الحركة العلمية في ذلك العصر ابن سينا من بخارى، أبو الريحان البيروني من خوارزم. وفي هذه الفترة انتعشت اللغة الفارسية وخدمها الكثير من الأدباء والشعراء.
عصر الدول التركية، وأشهر هذه الدول هي القراخانية، السلجوقية، واخيرا الخوارزمية. وازدهرت الحضارة الإسلامية ازدهارا عظيما في هذه الحقبة.
الغزو المغولي، أعظم كارثة عرفها المسلمون عبر التاريخ، وأعظم بلاد تأثرت من هذا الغزو هي بلاد ما وراء النهر. قسم جنكيز خان جيشه الى أربعة اقسام وسيرها لغزو دار الاسلام بعد تهور السلطان الخوارزمي علاء الدين محمد خوارزمشاه وغدره لتجار المغول، فدمروا المدن وأحرقوها، واهانوا بيوت الله وخربوها، ولم يسلم من سيوفهم شيء فيه روح. ومن الأحداث المفجعة ما كان في بخارى من فئة تحصنوا في القلعة الداخلية وصمدوا في وجه المغول ١٢ يوما حتى استشهدوا، وقد قتلوا أعدادا كبيرة من جنود المغول، فاشتد حنق الطاغية وصب جام غضبه على سكان بخارى، قال ابن الأثير رحمه الله: "وكان يوما عظيما من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان، وتفرقوا أيدي سبا، وتمزقوا كل ممزق، واقتسموا النساء أيضا، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم، والناس ينظرون ويبكون، ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئا عما نزل بهم". وكان مصير بخارى في النهاية بأن أمر الطاغية بإحراقها. هذا ما حصل في بخارى، وكل مكان في بلاد ما وراء النهر يحكي فاجعة ومأساة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الدولة الجغتائية، قسم جنكيز خان بلاد المغول بين أولاده فكانت بلاد ما وراء النهر من نصيب الابن الثاني جغتاي، وعانت بلاد ما وراء النهر في هذا العصر تدهورا في المجال الاقتصادي لتدمر قنوات الري، وخسارة في العنصر الثقافي والحضاري لكثرة الهدم والقتل.
الدولة التيمورية ومؤسسها الأمير تيمور لنك، وقد أعاد تيمور لنك لبلاد ما وراء النهر مجدها ورونقها، وانتعشت البلاد وكثرت الخيرات، وقد حكم تيمور بلاد ما وراء النهر وتركستان وفارس وخرسان وشمال الهند والعراق والشام وروسيا والقوقاز، واستقبل السفراء والوزراء في بلاطه، وأحبه سكان ما وراء النهر حبا شديدا، لكنه أيضا كان سفاحا قاسيا اغرق آسيا في لجة من الدماء، ومن ذلك ما ذكر عن تهديمه لمدن عظيمة كبغداد ودمشق. وقد حكم أبناؤه وأحفاده من بعده لكنهم لم يستطيعوا الحفاظ على حجم الإمبراطورية بعد وفاة تيمور لنك، لكنهم أحيوا بلاد ما وراء النهر وعاصمتهم سمرقند بالمبان الباهرة، والمنشآت الضخمة، والمدارس الزاخرة بطلابها.
حكم الأوزبك، وهي إحدى السلالات التركية التي نسبت تشريفا الى السلطان غياث الدين محمد أوزبك خان تاسع خانات القبيلة الذهبية الذي أسلم وكان مخلصا لدين الإسلام. وقد حكم بلاد ما وراء النهر عدة عوائل من هذه القبيلة سميت كل فترة باسم العائلة الحاكمة، كالدولة الشيبانية والاشتراخانية ودولة العربشاهيين في خوارزم وغيرها. وفي آخر فترة حكم الأوزبك، انقسمت بلاد ما وراء النهر الى ثلاثة أقسام رئيسية، خانية خوقند تحكم اقليم فرغانة والشاش (طشقند)، خانية بخارى تحكم اقليم الصغد (سمرقند وبخارى)، وخانية خيوة التي تحكم خوارزم. وكان بين هذه الدول الكثير من الحروب والقتال حتى دخول الروس.
الاحتلال الروسي الذي بدأ من خانية خوقند واستمر حتى استحلوا بلاد ما وراء النهر بالكامل. ومثلما قضت محاكم التفتيش في إسبانيا على حضارة الأندلس، عمل الغزاة الروس على محو الحضارة الإسلامية في بلاد ما وراء النهر، فانحدر المستوى الثقافي والاقتصادي، وظهر الانحلال الفكري والاجتماعي، ولم تعرف بلاد ما وراء النهر نكبة أعظم من الاحتلال الروسي. قيد الرجال والنساء للعمل لصالح شركات روسية بأجور زهيدة، وأرغم البعض على دخول الجيش الروسي، واستنزفت موارد تلك البلاد حتى عم فيها الفقر والوباء، ومن أعظم اثار ذلك الاحتلال جفاف بحيرة خوارزم حتى النصف، وتغير جو خوارزم التي كانت تغمرها الثلوج شتاء والأمطار بالربيع صحراء يسودها الجو الحار والجفاف طوال العام. وانتهى الاحتلال الروسي بسقوط الاتحاد السوفييتي وإعلان استقلال الجمهوريات في وسط أسيا سنة 1991 م.
لم أعلم قبل قراءة هذا الكتاب عن بلاد ما وراء النهر سوى معلومات متفرقة عن أهم مدنها، وبعد القراءة أحببت تلك البلاد، وعرفت مدى أهميتها وفضلها للإسلام والمسلمين، وأنصح الجميع بقراءة هذا الكتاب المدهش، الذي جمع بين جمال الوصف وحسن الصرف، اخبار بلاد غنية بماضيها عظيمة بتاريخها.
عن المؤلف
نادر مطلق الوثير، باحث بالتاريخ والفكر الإسلامي، وقد تركزت جهوده في البحث عن تاريخ بلاد ما وراء النهر. وكانت ثمرة جهده هذا الكتاب الذي استغرق في جمعه خمسة سنوات ما بين قراءة كتب التراث والتاريخ والرحلات الميدانية لدول وسط أسيا.