المؤمن الصادق: أن تتحرر من الحرية
سامي المالكي
مراجعة لكتاب:
"المؤمن الصادق: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"
لـ “إيريك هوفر” .. ترجمة “غازي القصيبي”
١٢ نوفمبر ٢٠١٦
الكتاب ألفه عامل بسيط ومثقف أثناء عمله في ميناء سان فرانسيسكو، ومع ذلك يقدم رؤى رائعة تجاه طبيعة الحركات التي تستمد جذوتها الأولى من الجماهير، كما يقدم تعريفه لتلك الحركات وأوجه الشبه والاختلاف بينها وبين الجيوش، ورغم أن الكتاب نشر في ١٩٥١ إلا أنه ينطبق على أغلب الحركات سواء كانت سياسية أم ثورية أم دينية أم شعبية، كما يقدم تفسيرات منطقية لنزعة الفرد غير المبررة للانخراط في تنظيم يسلبه فرديته ليصبح عبداً لنزعات الجماعة، يلخصها باقتباسه "واستخدموا القاذروات سلاحاً لهم"، حيث تتوقد نارها عبر الأتباع المحبطين، وبعد أن تنتهي حفلة رفض الواقع، يقفز المتطرفون ليقودوا السفينة بدون رحمة، وإذا كتب للحركة الاستمرار فإن الرجال العمليين سيتولون ذلك لتتحول إلى ما يشبه السلطة القديمة.
يقع الكتاب في ٤ أقسام، وهو مليء بالنصوص الرائعة التي تصلح للاقتباس لكن لضيق المساحة لا يمكن الإحاطة بكل تلك الاقتباسات، لذا سأتحدث باختصار عن كل قسم:
القسم الأول: جاذبية الحركات الجماهيرية
تجذب الحركات الجماهيرية الأتباع لأسباب أهمها: الرغبة في التغيير، فكل ما يريده الأتباع المحبطون في الغالب هو الهروب من أنفسهم، لذلك بزغ نجم الحركات الدينية في الماضي، كالمسيحية وحركة الإصلاح البروتستانتي، ثم أتت الحركات الثورية والسياسية، كالثورات الفرنسية والإنجليزية والبلشفية والحركات القومية النازية واليابانية وغيرها، كل تلك الحركات كانت تذيب الأتباع في المجموع وتعطيهم البديل المنتظر عن أنفسهم التي يكرهونها وواقعهم الذي يهربون منه، إنها تحول أصحاب الدكاكين الصغيرة إلى عمال وجنود في حلم كبير وأمل جديد ينتظرونه!
عندما يشكو المرء شيئاً يحول بينه وبين القيام بواجباته، حتى عندما يجد ألماً في أمعائه، فإنه يبادر إلى محاولة إصلاح العالم!
هنري ثورو
هؤلاء المحبطون غير راضين عن أنفسهم وبنفس الوقت لديهم إحساس بالقوة، ومشحونون بالأمل. الراغبين بالتغيير تتوقد لديهم الآمال الجامحة، الأمل بجنة في السماء، أو جنة على الأرض.
إحباط + إحساس بالقوة + آمال جامحة = أتباع متوقعون لأي حركة، ولا يهم ما أهداف الحركة، الأهم أن تلبي الشوق إلى الخلاص من الذات، بل إن المطرودين من أي حركة جماهيرية هم أتباع محتملون لأي حركة أخرى، حتى لو كانت العدو الأول لحركتهم. هكذا نفهم أن الشيوعين كانوا ينضمون فوراً للنازية إذا انسلخوا منها. المحبطون يجدون في الحركة بديلاً لأنفسهم أو لجزء منها، والإيمان بقضية مقدسة هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدوه بأنفسهم.
القسم الثاني: الأتباع المتوقعون
الطبقى الوسطى (الغالبية) هي التي تحفظ توازن أي أمة، بينما ينفرد الصفوة بالمناصب والتعليم والتفوق، ولا يتبقى للطبقة الدنيا شيء فتمتلئ بالغوغاء، ويُقصد بالغوغاء المجرمين والمنبوذين وفاقدي التوازن والعاجزين والفاشلين وغيرهم، والمفارقة أن من يصنع التاريخ ليسو الأغلبية من الطبقة الوسطى، بل الصفوة والغوغاء، والغوغاء هنا هم أتباع مثاليون لأي حركة لأنهم لا يكنون أي احترام للوضع الراهن ولا يرون أملاً في العلاج، ويفضلون الانصهار في عمل جماعي ويؤمنون بالحلول الراديكالية واقتلاع النظام القائم، سواء عبر ثورة أو هجرة جماعية أو حركة قومية أو جماعة متطرفة. المنبوذون هم دائماً الذين يكونون حجر الزاوية سواء في بناء عالم جديد كما فعل المهاجرون المنبوذون من أوروبا حين بنوا أمريكا، أو في نشوء حركة ثورية أو مد قومي كما في الحركات الشيوعية والثورات الشعبية والقومية.
الكتاب يحوي شرحاً مفصلاً لكل فئة من هؤلاء المتذمرين المحبطين، بل تحليلاً نفسياً عجيباً لهم، نجد مثلاً لماذا يميل من يظنون أنفسهم منغمسين بالمعاصي إلى الالتحاق بالفئات المتطرفة للتطهر من ذنوبهم. ولذلك نجد أشد المتطرفين هم أولئك الذين كانوا منحلين منحرفين وعانوا من تعذيب الضمير الذي تدفعهم إليه حياتهم الملوثة.
إن إحباطنا عندما نملك الكثير ونريد المزيد، يفوق إحباطنا عندما لا نملك شيئاً ونريد القليل، ونحن أقل تذمراً حين نفقد أشياء كثيرة، منا حين لا نفقد إلا شيئاً واحداً.
إيريك هوفر
كما أن الفقراء ليسو جميعاً أتباع محتملون، لأن الذين يعيشون على الكفاف والذين عاشوا مدة طويلة في جو الفقر لا يفضلون تغيير الأوضاع الراهنة، لكن حديثي الفقر والذين فقدوا اتزانهم لا يستطيعون تحمل المأساة ويملؤهم الشوق للعودة لمجد الماضي، كما أن الفقراء فقراً مدقعاً لا يملكون سوى البؤس ويفتقدون لما يملأ فراغ يومهم فهم ليسوا كفقراء الكفاف الذي يعيشون صراعاً يومياً للبحث عن لقمة العيش. إضافة لذلك، الفقراء الذين تعودوا على العبودية قد لا يشكون من تسلط النظام القائم بعكس الأحرار، الحرية عبء كبير لايستطيعون تحمله.
نحنا نغامر في سبيل الحصول على الكماليات أكثر مما نغامر لكي نحصل على الضروريات، و كثيراً ما يحدث أننا عندما نتخلّى عن الكماليات نجد أنفسنا وقد فقدنا الرغبة في الضروريات.
إيريك هوفر
وعلى النقيض نجد أن الذين يتمتعون بروابط اجتماعية قوية لا يميلون للانضمام لأي حركة، وكذلك الذين ينطوون تحت ستار قبلي أو عرقي أو ديني كبير وحميم، فهم يشعرون بالانتماء للجماعة ولا يحبذون تغييرها، لذا تعمد التحركات الجماهيرية وحتى الثورية والدينية لتحطيم الروابط القائمة وجعل الانتماء الحركي أو الديني الجديد في المقدمة وإجبار الفرد على أن يفضّل القائد على أهله وعشيرته ولو خيّر بينه وبين أهله لفضل التخلي عنهم فداء للحركة/ الدين/ الثورة/ القائد.
هناك أمل يشجع على الثورة، و أمل يشجع على الصبر، وهذا هو الفرق بين الأمل المباشر والأمل البعيد. تبشر الحركات الجماهيرية الصاعدة بالأمل المباشر. لا شيء يحثّ أتباع هذه الحركات على التحرك مثل الاعتقاد أن الأمل على وشك التحقق. كانت المسيحية عند ظهورها تبشر بنهاية العالم الوشيكة وقدوم مملكة السماء، ولا يمكن تجاهل الدور الذي أدّته الغنائم في حروب الإسلام، واليعاقبة في فرنسا وعدوا بحرية ومساواة يجيئان على الفور، بينما وعد البلاشفة الأوائل بالخبز والارض.
إيريك هوفر