الحرية والانضباط

كيف تصنع القيود حريتنا

يذكر الرحالة المستشرق ويلفرد ثيسغر (مبارك بن لندن) في كتاب "الرمال العربية" بأن البدوي لا يتخلى عن الصحراء لأنها المكان الوحيد الذي يكون فيها بكامل حريته، ففي الصحراء الشاسعة تتحقق للبدوي حريته المطلقة، فلا مكان يقيده  ولا حدود فيها لعالمه.

مبارك بن لندن

ويلفرد ثيسغر (مبارك بن لندن)

إن كنت مثلي فقد تتساءل حول طبيعة الحرية التي يتحدث عنها ثيسغر والتي يجدها البدوي في الصحراء. ففي نهاية الأمر لا بد أن تكون هناك قيود من نوع أو آخر، قيود اجتماعية، أو قيود دينية. قيود تفرضها الطبيعة وجغرافية المكان، وغيرها من القيود.


يبدو لي إن طبيعة الحرية التي يتحدث عنها ثيسغر هي الحرية النابعة من غياب الارتباط، فالبدوي لا يرتبط بمكان، وموطنه هو المكان الذي حيث يجد في الكلأ والمؤونة له ولراحلته. والبدوي كذلك لا يرتبط بمهنة، فهو يؤدي دوره ضمن النظام الاقتصادي البسيط لمجتمعه وبه تتحقق له سبل العيش.

 

صورة التقطها مبارك بن لندن لبدوي يمارس حريته في صحراء الربع الخالي


إيزيا برلين ومفهومين في الحرية

قدم الفيسلوف البريطاني الراحل ومؤرخ الأفكار أيزايا برلين تصوراً مختلفاً لمفهوم الحرية، حيث أشار في مقالته ذائعة الصيت "مفهومين في الحرية" Two Concepts of Liberty إلى أننا نعني بالحرية مفاهيم مختلفة نرمز لها بنفس الاسم. وعليه فقد قسم الحرية إلى نوعين: حرية سلبية وحرية إيجابية.


الحرية السلبية هي كل ما يتعلق بالفضائات الخارجة عن إطار الفرد، وتمثل مقدار القيود التي تفرضها البيئة على فرد ما والتي قد تمنعه من تحقيق ما يرغب به.


أما "الحرية الإيجابية" فيقصد بها القيود التي يفرضها الفرد على نفسه، وتُعنى بسعي الفرد لتهذيب ذاته وضبط رغباته، فالقيود في هذه النوع لا تفرض من سلطة خارجية بل هي قيود يفرضها الإنسان على حريته سعياً لتحقيق مصلحته.


جوكو ويلينك: الانضباط كوسيلة للحرية

جوكو ويلنيك Jocko Willink هو قائد عسكري سابق قوات السيلز SEALs ، والتي تعرف بأنها تتصدى لأصعب المهام التي تواج الجيش الأمريكي، وشارك في حروب ضاريه ضد قوات داعش في العراق. عُرف عن ويلنيك قدرته الفائقة على  إنجاز المهام الصعبة الموكلة له ولفرقته بكفاءة وفعالية عالية.


بعد تقاعده أخذ ويلنيك يتحدث حول العامل الأساسي الذي  ساهم في نجاح فرقته العسكرية، وقام بتوظيف هذا العامل لمساعدة الأفراد والمنظمات على النجاح. كل ما يقوم ويلنيك بتعليمه هو فضيلة الانضباط، ويلخص فلسفته في جملة بسيطة: (الإنضباط يعني الحرية) Discipline Equals Freedom، فالإنسان يتحرر من عبودية الرغبات والشهوات إذا ما تمكن من فرض سيطرته عليها.


فكأن ما يطرحه ويلينك يرتبط بما يطرحه أيزايا برلين حول الحرية الإيجابية من جانب أن الفرد إن لم يقيد حريته بذاته، فإنه سيخضع للقيود المفروضة عليه من البيئة الخارجية. وكلما قيد الفرد ذاته بذاته كلما تحرر من قيود البيئة الخارجية. فالحرية بهذا المفهوم تزداد بمقدار القيود التي يضعها الفرد على نفسه.


محكومٌ على الإنسان بأن يكون حراً، فهو منذ أن يُلقى في هذا العالم عليه أن يتحمل مسؤولية كل ما يفعل

ختاماً, ففي الوقت الذي تحمل فيه فكرة الحرية أهمية كبرى في ثقافة الفرد والمجتمع، وينظر لها كقيمة عظمى، يتحتم علينا التساؤل هنا: ماهي الحرية؟ ولماذا يجب علينا أن نعتبر الحرية غاية عظمى يصارع الفرد من أجلها وقد يفني حياته سعياً لتحقيقها أو للحصول عليها؟ وفي خضم ذلك يجب أن نستحضر ما يعتبره جان بول سارتر الوجه الثاني للحرية التي يجب أن يرافقها لكي تتحقق بشكلها الفاعل، ألا وهي المسؤولية، فالحرية بلا مسؤولية عبث، والمسؤولية بلا حرية إكراه. 

انضم إلينا