الفتاة والحكيم والبئر

يوم مميّز:


اعتدتُ الذهاب إلى عملي بالقطار، كل يوم الساعة السابعة صباحًا أكون بانتظاره، لكن مرّ عليّ يوم لم يكن عاديًّا!

جلستُ في القطار بجانب امرأة في الأربعينيّات من عمرها، وأكثر ما لفت نظري كَوْنها تقرأ كتابًا تتغير تعبيرات وجهها بين صفحة وأخرى. قادني فضولي إلى القول لها: هل لي بسؤال سيدتي؟ قالتْ: على الرحب والسعة تفضلي. قلتُ: هل لي بمعرفة ما الذي يجعلكِ تبتسمين تارة وتتعجبين أخرى في أثناء قراءتكِ؟

ضحكتْ وقالتْ: لأن ما أقرأه يدعوني لذلك. قلتُ لها: ألا أخبرتني عنه من فضلك، لقد شوّقتني لمعرفته؟

قالتْ:

هو كذلك، فاصغي إليّ جيدًا أخبركِ القصة من أولها.

بداية الأسطورة


كانتْ هناك أسطورة تحوم حول بئر في قرية صغيرة عُرف أهلها بحبهم كثرة الذهاب إلى الكهنة والعرافين. رُبّما تكون حقيقة أو غير ذلك، هذا لا يهُم، بقدر ما يهمني تصديق أهل القرية لها.


وهذا كله يتمثّل في القصص والحكايات التي تُحاك عنها، كبار السن خاصة كان لديهم منها نصيب الأسد. منهم مَنْ يقول إن تلك البئر مسكونة تسكُنها الشياطين والعفاريت والأفاعي، ومنهم مَنْ يقول ثمّة كنز في جوفها، وأن مَنْ يذهب إليها في ساعة معينة من الليل يستطيع جَنْيَه كله ولا أحد يشاركه.

وأغرب قصة عن البئر هي عن فتاة من أهل القرية، حينما سمعتْ بالحكايات هنا وهناك عن فتيات تزوّجن ببركات تلك البئر، وكانت تريد الزواج مثلهنّ، فعلتْ شيئًا لم أعتقد أن مثلها قد تفكر فيه، هل تريدين معرفته؟ وأنا كذلك في شوق لإخباركِ به.

الفتاة والبئر


في القرية فتاة قررتْ التسلّل من البيت ليلًا والناس نِيام إلى البئر المباركة، علّها تَغْنم بعض ما عندها. تذهب كل ليلة تحمل فانوسًا ليضيء لها الطريق، والأغرب من ذلك أنها حين تصل إليها، تتحدث إليها وكأنها شخص يسمعها.


تخبرها بآمالها وأحلامها، وأن أكثر شيء تريده في الحياة هو الزواج؛ حتى لا تكون عُرضة لسخرية البنات منها، فهي تُحسّ بالغَيْرة منهنَّ، فهناك مَنْ أصغر منها سنًّا في بيوت أزواجهنَّ، فلمَ هي إلى الآن لم يطرق بابها أحد؟!

وفي ليلة من الليالي الحافلة بالحكايات عند البئر، حدث ما لم يكن بالحُسبان، لم تتوقع الفتاة رؤية ما رأته في أثناء حديثها وبكاءها كعادتها.

 

الحكيم


خرج نور من البئر أضاء لها المكان كله، عندها لم تستطع فتح عينيها لشدّته، سقطتْ مغشيًّا عليها، بعد بضع دقائقَ أفاقتْ ورأتْ حكيم القرية -وهو رجل طاعن في السنّ- يقف أمامها ويحاول الإمساك بيدها ليُساعدها على النهوض.

فتحتْ عينيها، ورأتْ الحكيم، لكنها لم تصدّق ما تراه، لم تدرِ أهو حقيقة أم خيال؟! ما هذا المكان الذي هي فيه، متى أتتْ إلى هنا، كل هذه الأسئلة وأكثر سألتها لنفسها خلال دقائق، وكأنها نسِيتْ أنها كانت في المكان نفسه.


وبعد استجماعها قِواها، وأدراكها أنها لا تحلم، وأن الذي أمامها هو حكيم القرية، سألته ما الذي أتى بكَ إلى هنا سيدي، وكيف عرفتَ أنني هنا، وهل جئتَ وحدكَ أم مع غيركَ؟

ابتسم الحكيم ابتسامة خفيفة وقال لها بصوت حانٍ يريد طمأنَتها: لا يا ابنتي، لقد جئت وحدي ولا أحد معي، لكنني أريد إخبارك بشيء لا تعرفيه إلى هذه اللحظة، قالتْ أرجوكَ ما هو؟ قال لها: هذه ليستْ الليلة الأولى التي أكون فيها في هذا المكان.


فمنذ قررتِ المجيء إلى البئر، وأنا أتبعكِ وأراقبكِ، وأنتظر في مكان بعيد حتى لا تريني، فإذا قضيتِ حاجتكِ ونويتِ الذهاب إلى البيت، تبعتُكِ حتى تصلي بأمان.

قالتْ الفتاة في ذهول: وهل هناك غيركَ يتبعني يا سيدي؟! قال لها الحكيم: اطمئني ليس هناك غيري، فقد اعتدتُ المجيء هنا لرؤية أناس مثلكِ صدقوا أسطورة البئر وأرادوا الفوز ببركاتها.

 

سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش


ثمانين حولًا لا أبا لكِ يسأمِ

زهير ابن أبي سُلمى
حقيقة البئر


قالتْ مُتعجّبة: وهل هي غير ذلك، أعني البئر ليستْ مباركة، وأن كل مَنْ أتى إليها وأخبرها بمراده حصل على ما يريد كلام غير صحيح؟! وكيف تزوجتْ فتيات القرية إن لم تُنْعم عليهنَّ البئر بما طلبنَ منها؟!

قهقه الحكيم قهقهةً أحسّتْ الفتاة وكأن المكان اهتزّ لها. ثم قال: يا ابنتي وهل تصدقين روايات فتيات القرية عن بركات البئر التي كانت السبب وراء زواجهنَّ؟!


هذا غير صحيح، هذه البئر التي تجلسين كل ليلة أمامها ما هي إلا مكان كنّا نأخذ منه الماء في الماضي لقريتنا، لكن أتى علينا زمن من الأزمنة جفّتْ فيه، ولم نكنْ نجد الماء الذي يسدُّ حاجتنا، فاضطررنا إلى الذهاب إلى القُرى المحاورة لأخذ كفايتنا من الماء، حتى جاء يوم ظهرتْ فيه أسطورة البئر هذه، وأنها تتنزّل بالبركات والرَّحَمات على مُرْتاديها.

كل ذلك كانت بدايته من قصص افتَعلها عرّاف سمع عن قريتنا وما حلَّ بها، واستغلَّ هذه الفرصة للترويج لقصصه الخيالية؛ حتى يأتي الناس إلى البئر ويقبض هو الأموال التي لا حَصْر لها.


والفتيات اللاتي تزوجنَ يا ابنتي لم يتزوجنَ ببركات البئر، كل واحدة منهنَّ أتى نصيبها في وقته، فالنصيب لا يتقدّم ولا يتأخر.

نصائح الحكيم


هل تريدين سماع نصائح من إنسان رأى الكثير في حياته، سئِمها وأبيض شعره من تكاليفها؟

كما قال زهير ابن أبي سُلمى:


سئِمتُ تكاليف الحياة ومن يعش


ثمانين حولًا لا أبا لكِ يسأمِ

قالتْ: نعم يا سيدي وسأكون مُمتنّة لكَ إن نصحتني بما ينفعني.


قال الحكيم: افعلي في هذه الحياة يا ابنتي ما ترينه صحيحًا وسليمًا، لا تجعلي نفسكِ رهينة لأيّ شيء أو لأيّ أحد، لأن ما تريدينه ويهمّكِ ليس شرطًا أن يعني شيئًا لغيركِ، فصُبّي جُلَّ طاقتكِ على ما ينفعكِ، ولا تسمحي لأسطورة كالتي نحن بصددها الآن تُرشدكِ وتُقيّد مسار حياتكِ؛ فحياتنا مِلْكنا وحدنا وليستْ لغيرنا.

وآخر نصيحة وهي أهم وأغلى من الكنوز كلها، الصبر. عليكِ بالصبر لأن مَنْ صبر ظفر، وذلّتْ له الصعاب، ولن يلقَ في آخر أمره إلا الخير.

قرار الفتاة:


قالتْ الفتاة: أشكركَ يا سيدي على هذه النصائح الغالية، وسأحاول تطبيقها في جميع جوانب حياتي من الآن فصاعدًا، ولن أتسابق الأحداث، بل سأنتظر نصيبي إلى أن يأتي إليّ. بعدها انصرفتْ الفتاة إلى بيتها يُرافقها الحكيم، ومنذ ذلك اليوم لم ترجع الفتاة إلى البئر مرة أخرى.

 

ما يُستفاد من القصة:


في نهاية قصتنا -عزيزي القارئ- نستخلص منها فائدة مهمة ألا وهي أن لا نُصدّق كل ما نسمعه، ولا نسمح لغيرنا بالتّحكم في حياتنا، فليس كل ما يلمع ذهبًا.


علينا التحقق والتثبت، وأن يكون كل منا نفسه لا يقارنها بالآخرين، لأن المقارنة لا تأتي بخير مطلقًا.

 

 

Join