مسافة آمنة
أفنان
"اترك مسافة آمنة لا تقل عن مترين بينك وبين الآخرين."
أجل، كان هذا شعار منظمة الصحة العالميّة في العام الماضي وحتى الآن، العام الذي كان مختلفًا على كافة الأصعدة، وبينما تصيح وزارة الصحة بذات الشعار، صاحت روحه فجأة، عِوضًا عن جسده، إذ أن جسده لم يزل يترك العديد من المسافات الآمنة بينه وبين الآخرين، لكن روحه كانت تشكو الاختناق، وبدأ الناس يتراكمون بداخله.ـ
انشغل المقهى المجاور لمنزلنا في تطبيق الاحترازات التي يردّدها الجميع ليفروا بجلودهم من العدوى، مثلما انشغلت الرياض، بل كما انشغل العالم بأسره في فرض المسافات الآمنة الجسديّة في تواصلنا مع الآخر، وبينما ينخرط العالم في التباعد الجسديّ، ينغمسُ في التقارب الاجتماعي الروحيّ، فهو في حالة من حرمان رؤية الآخر، مما ينتهي به إلى مضاعفة العلاقة وتكثيف الالتصاق النفسي بذلك الآخر، الآخر الذي لابُدّ وأن يفصل بينهما مسافة مترين أو متر على الأدنى، لكن ماذا عن المسافة التي تحتاجها الأرواح حالما تتواجد مع الآخر كائنًا من كان؟
إن المسافات الآمنة على الصعيد النفسي/ الروحيّ بيننا وبين الآخرين باتت ضرورةً قصوى مؤخرًا، نظرًا لما خلّفته الجائحة من تلازمٍ روحيّ، ولكونها مفتاح استمراريّة العلاقة بأريحية وبمشاعر صادقة وحقيقيّة، ولأنها باختصار المعيار الأصيل للعلاقات الصحيّة، وعندما نفتّش باحثين عنها في علاقاتنا مع الآخرين نجد أنها تكاد أن تكون مطمورةً باسم الحُب والاهتمام، وفي أحايين أخرى، تكون سلاحًا مهددًا للطرف الآخر، إذ يرتعش قلبه ما إن يعبّر صديقه عن حاجته للجلوس لوحده قليلًا، أو عن دوائره التي لا يريد لأحدٍ ما أن يدوس عليها، فيشعر بأن السلاح قد أشهر في وجهه، وأن صاحبه مقدمٌ على جهز هذه العلاقة وبترها، وهذا ما يجعل الصدام بين الطرفين شاهقًا، وما إن يتنازل الأول عن رغباته واحتياجاته من فرط ما استعطفه الآخر بحبّه ورغبته بإحاطته الدائمة به، يختنقُ صديقنا إلى أن يصل مرحلة الانفجار كبركانٍ قد أخرسته الأرض فثار عليها.ـ
متر، متران، ما هي المسافة الآمنة التي تحمينا حقًا من اختراق حريّة الآخر وخدش راحته؟ هل من الممكن قياس المسافة الروحيّة بالمتر؟ مما لا شك فيه أنه مستحيل، فما يتعلق بالأرواح لا يمكن ترجمته إلى ماديّات، لا يمكن ترجمته إلى مقعدٍ يفصل بيني وبين الآخر في صالة انتظارٍ أو في صالة سينما.ـ
يكمنُ الفرق بين المسافة الجسديّة والمسافة الروحيّة في كون أولهما قابلٌ للقياس والثبات، فلا شك أننّا نتمكن من منح الآخرين -دون استثناء- مسافة جسديةً لا تقلّ عن مترين على أرض الواقع، بينما في الحالة الأخرى يعجزنا تحديد مقدار المسافة اللازمة لذات الآخر وكيانه المتكامل، ومن المستحيل توحيدها، فالمسافة التي تمنحها صديقك ليختلي بنفسه تختلف عن المسافة التي تمنحها ابنك ليدبّر أموره كما يشاء، لأنه لا وجود لمسافةٍ ثابتة في التعامل مع جميع البشر.ـ
هل تكون إذًا المسافة الروحيّة أو المعنوية أمرًا من النادر حدوثه لصعوبته؟ لا يبدو الأمر صعبًا جدًا بقدر ما كونه يتطلّب الاستعانة بذكائك الاجتماعي والعاطفيّ، لا تشرع في خوض علاقاتك بصورة تلقائية وعشوائية، فلا تكون العلاقات ملعبًا ترمي كُرتك به كيفما تشاء، بل هي أشبه برقعة الشطرنج، تتطلّب الكثير من الفطنة والدقة والحذر، كأن تعرف أين تضع خطواتك ومتى، أن تفهم الإشارة التي تتطلب تراجعك للخلف قليلًا، والتلويحة التي تستدعي إقدامك على منطقةٍ ما، واللبيبُ بالإشارة والتلويحةِ يفهمُ.ـ
يشير الفيلسوف شوبنهاور إلى معضلة القنفذ كنايةً
عن التحديّات التي تواجه الإنسان في الالتصاق بالآخرأو الابتعاد عنه، إذ تجتمع القنافذ وتلتفُّ حول بعضها لتحصل على دفءٍ في ليلةٍ قارسة البرودة، وبينما تتنعمُّ بالدفء الناجم من الالتصاق، يردعها وخز أشواكها المتبادل، فتتراجع باضطرارٍ شديدٍ وتقفُ في العراء منتفضة الجسد، وهكذا ظّلت القنافذ بين ألم وخز الأشواك وبين ارتعاش الأجساد، حتى اهتدت أخيرًا، إلى التمركز في منطقةٍ ذات مسافةٍ آمنة، تمنحها الدفء بينما تحتملُ أقلّ درجة من الألم.ـ
كن على مسافةٍ روحيّةٍ آمنةٍ مناسبةٍ مع الآخرين، تفكّر في حدودك وفي حدودهم، وفي استقلاليتك واستقلاليتهم، وبينما تسعى لتجاوز الحدود وطمس المسافات، تذكّر أن أمن الآخر قد اخترق، وأن الرؤية باتت ضبابية، لأن إحدى الصورتين قد اندمجت بالأخرى حتى فقدت كُلًا منهما معالمها وحدودها، فأصبحتا في حالةٍ من الضياع، كيف يمكن لإحداهما أن تسترد عالمها دون أن تمحو الأخرى منه؟ وقبل أن يصل الحال إلى تلك الدرجة من السوء والاختناق، اترك مسافةً آمنة بينك وبين الآخرين، مسافةً روحيّة ملائمة.ـ