للحيطان آذان

إنها لقصة موجعة، مؤلمة، مفجعة، هذا أقل ما يمكننا قوله عن الملهاة الأندلسية: في الخامس من يناير عام ١٤٩١ أمضى وضيع الشأن دنيء المقام الصغير (أبو عبد الله محمد الصغير) على معاهدة السلام التي تنص على تسليم المدينة، وتسريح الجيش ومصادرة السلاح، مقدمًا بذلك مهر إيزابيل الأولى الذي اشترطته لتوافق على الزواج من فرناندو الثاني وأبت إقامة الزواج إلا في باحات قصر الحمراء.

ما كان من النصارى إلا أن نكثوا العهد فورًا وقاموا بتطهير عرقي وديني لأهل غرناطة، حتى أنهم طَردوا من مد لهم يد العون، فخرج الصغير صاغرًا، على تل (سمي فيما بعد بزفرة العربي الأخيرة) ووقف يبكي متأملًا غرناطة متحسرًا على ما فرط من ملك أجداده لتقول له أمه "عائشة الحرة" مقولتها المُخلدة في التاريخ العربي والإسباني: (ابك كالنساء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال).
يمهل ولا يهمل قضى الصغير بقية حياته متسولًا مشردًا في طرقات وأزقة فاس ومات على ذلك.

عاش أهل غرناطة وتجرعوا صنوف التنكيل وألوان العذاب على يد محاكم التفتيش التي عملت على إحراق الكتب وتجريم اللغة العربية وطمس حضارة كانت تعُج بالحياة لمئات السنين. فهاجر من هاجر، أما من بقي فمصيرة إما مقصلة محاكم التفتيش أو التنصير، على أثره عاش المورسكيين حياة مزدوجة نهارًا يتلون الإنجيل في الكنيسة، وليلًا يختبئون يعبدون الله سرًا وهمسًا، و كان من بين هؤلاء (محمد الأندلسي) ابن الستة أعوام، نهارًا يذهب للصلاة في الكنيسة وإذا انفك عن الذهاب يجره الخوري مرغمًا إياه على الحضور، ليلًا كان والده يشرع في تعليمة القرآن وعلوم اللغة العربية ويحكي له ما كان لهم في سالف الأيام من حضارة وتاريخٍ تليد، يوصيه والده هامسًا محذرًا إياه يقول: "اقترب مني وأرهف سمعك جيدًا، فإني لا أقدر أن أرفع صوتي "أخشى أن تكون للحيطان آذان فتشي بي إلى ديوان التفتيش فيحرقني حيًا."

ضيقت المحاكم خنقتها وأحكمت قبضتها فكانت لا تبقي ولا تذر، فلا تغرب شمس يوم إلا ويحرق أو يصلب عشرون أو ثلاثون من المسلمين، يعذبون أشد العذاب فتقلع أظافرهم، وتقطع أصابعهم، ويجلدون فيتناثر لحمهم.
وشت الحيطان بأبي محمد وثلةٌ معه فكان لهم ما تمنوا (الشهادة). أما محمد فاستطاع النجاة من براثن الصليبين وفر هاربًا إلى المغرب ليغدوا العالم الأندلسي المغربي الكبير "محمد بن عبد الرفيع المرسي الاندلسي".

لم تسدل فصول التغريبة الأندلسية في عصرنا الحالي، لا زال الحقد هو هو. والظلم هو ذاته وإن اختلفت الوسائل والطرق، ففي كل عام يقام احتفال سنويًا تقرع فيه الطبول والأبواق وتنظم المسيرات العسكرية احتفالًا بسقوط غرناطة واستقلال إسبانيا، رغم أن إسبانيا لم تستقل إلا في القرن التاسع عشر بحسب ما تذكره كتب التاريخ.
 
 يخفف أبو البقاء الرندي عنه وحشة غرناطة وما ألم بها فيعزي نفسه ويعزينا بمرثيته:


لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ * فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ
هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتَهَا دُوَلٌ * مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ
فَاسْأَلْ بَلَنْسِيَةً مَا شَأْنُ مَرْسِيَةٍ * وَأَيْنَ شَاطِبَةٌ أَمْ أَيْنَ جَيَّانُ
وَأَيْنَ قُرْطُبَةٌ دَارُ العُلُومِ فَكَمْ * مِنْ عَالِمٍ قَدْ سَمَا فِيهَا لَهُ شَانُ

 

Join