; كيب تاون
قصص ومعلومات
الجزء الرابع
ذهب والدي وكبرت أنا -و-ليلة اكتمال القمر
وداع والدي
مر أسبوعان على وجود والدي معنا هنا في جنوب أفريقيا , حفظ فيه عادات العم وصفي التي لم تكن تعجبه بعض الشيء لاختلافها عما اعتاد عليه أو لنقل -على ما جُبل عليه- , فقد كان يستيقظ كل صباح قبل الجميع ليستمتع بإعداد الفطور , بيض مقلي مع الجبن الأصفر والتوست المحمص مع الزبدة و بعض الحليب الساخن , كما انه لم يكن ينسى كوب القهوة الخاص بزوجته ويقدمه لها في طبق على السرير - كان يفعل ذلك كل صباح - , ففي بعض الأحيان كانت تشتهي قالب شوكولاته أو مثلجات في وقت متأخر من الليل ولا يزال يحضرها لها بعد هذا العمر - بالطبع بعد أن يتذمر قليلا -.
إن بعض الأمور قد تكلفنا القليل لكنها بكل تأكيد تعني الكثير , وبعض الأفعال التي نراها صغيرة كم ستترك من أثر كبير , وبعض التقدير والاهتمام دائماً ما يغني عن الكلمات - كل ذلك لا يقدر بثمن-.
ننتهي من وجبة الإفطار و يأخذنا العم بسيارته للمعهد ليعود بعدها للمنزل ويطعم الطيور بعضاً من الحَب أو يذهب للصيد أحيانا , وفي المساء يعمل في ورشته الصغيرة خلف المنزل ليصلح فيها- الخردوات- أو يتمشى مع كلبه بعضاً من الوقت حتى يحين وقت الغداء , هذا الغداء الذي كان يستمتع في تحضيره كثيراً ليكون جاهزاً في الخامسة مساءً , و يحب اللحظة التي نثني فيها على طعامه بل كان ينتظرها , و يرى مدى استمتاعنا بالوجبة في أعيننا و يعلم ذلك من الصمت المطبق و أصوات -الملاعق- أثناء الأكل , فهو يعمل جاهداً لتحسينه في كل مرة بلا ملل , كان من عاداته الخفية , أنه في كل ليلة يخرج ماتبقى من الطعام باحثاً عن من يحتاجه فيعطيه إياه .
قيمتنا كبشر تكمن في العطاء , في تقديم مانحب لمن نحب , هي عادات بسيطة لكنها تصنع إنسان.
هذا كان روتينه في كل يوم حتى جاء يوم سفر والدي , ليستودعنا عنده بعد الله.
في المطار زاد وزن الحقائب كالعادة فتذكر أبي نصيحةً كانت من ذهب , بأن يتوجه للرجال في المطارات دوناً عن السيدات , فمن المتعارف عليه هناك أنهم يدققون أكثر وهذا بطبعهم كسيدات على الأغلب .
كبرت مسؤوليتي في هذه الليلة بالذات لتصبح ثلاثة أضعاف حجمها الذي كانت عليه , أنا ابنه التاسعة والعشرين , مسؤولة عن أختين في الغربة , كان هذا حمل كبير على والدي لم أكن أشعر به قبل تلك اللحظة , ذهب والدي وكبرت أنا.
ليلة اكتمال القمر
علمت أن في ليلة اكتمال القمر من كل شهر يمكننا أن نراه كبيراً كأن بإمكاننا لمسه و يكون ذلك واضحاً من على قمة جبل رأس الأسد -Lion head-
الذي يشبه في كتلته الأسد المتمدد على الأرض , وكأننا نمشي على ظهره وصولاً للرأس.
تكمن قصةً تاريخيةً في بقعةٍ منه تسمى- Signal hill -
حيث كانت تطلق المدافع كإشارةً لوصول سفن البضائع إلى الميناء ,
فما زالو يحيون هذه الذكرى بإطلاق تلك المدافع في الساعة الثانية عشر ظهراً من كل يوم كطقوس لهم , حيث تعتبر الأقدم من نوعها في زمننا الحالي.
عودةً للقمر : بالنسبة لي لن أضيع فرصةً كهذه , عزمت على الذهاب في تلك الليلة من هذا الشهر مع اخواتي , ليس فقط لرؤية القمر بل وتسلق الجبل من أوله لآخره .
وبالفعل ذهبنا في الثالثة مساءً حتى نكون في القمة ساعة ظهور القمر , الطريق كان سالكاً وكأننا نصعد منحدراً عالياًً , كلما صعدنا زاد الانحدار أكثر فأكثر , لم يكن الاتجاه للأعلى مباشرة بل كأننا نلتف على الجبل بطريقة شبه حلزونية فيتغير المنظر علينا في كل مرة وهنا يكمن جمال الرحلة , فتارة نرى الطرقات والمدينة وتارة نرى أشجار الصنوبر تغطي الجبل حتى رأينا المحيط الأزرق .
هنا بدأ الطريق يزداد خطورةً حيث الكثير من الهاويات الآيلة للسقوط بدون سياج حولها فإن لم تكن تلبس الحذاء المناسب لن تتمكن من إكمال المسيرة بسلام , وهذا ما حدث معنا بالضبط فحذاء أختي غصون لم يكن ملائماً , وهذا ما أضطرنا للعودة أدراجنا وأن نسلك طريقاً آخر أقل وعورةً باتجاه التل وكانت هذه وجهتنا الثانية , مروراً بمنطقة- Signal hill - لنرى ذلك المدفع التاريخي القديم , لم ننتبه للوقت حينها فقد كنا مستمتعين بأشجار الصنوبر العملاقة تملأ الطريق.
شارفنا على الوصول لوجهتنا الثانية , بدأنا نرى العديد من الأشخاص يحلقون -بالباراشوت- على ارتفاع شاهق فقد كانو يقفزون من التل نحو السماء العالية وكأنهم يتجردون من كل شيء ليرتبطو بالسماء .