كعكة الليمون


خَيبات عَطِرة

سلّة ليمون !

تحت شعاع الشمس المسنون

و قعت فيها عيني ،

فتذكّرت القرية !



أحمد عبدالمعطي حجازي. 

أغنية التدوينة:


مما لا شك فيه فإن الروائح تتفوق على كل شيء بصلتها الوثيقة بالذكريات. تستحضر الذاكرة الرائحة قبل كل شيء، ترتبط بالأماكن والأشخاص والأوجه المختلفة والمواقف. لا تنفك كل صنوف الأدب و الفنون عن ذكر الروائح كمكون أساسي لإستحضار الذكريات سواء في الروايات أو القصائد أو الأغاني. و تكون الرائحة في مرات كثير مؤشرًا على صحة الإنسان و تنبيه له حال فقدها بوجود خطب ما. لكن ماذا عن مواقف الحياة اليومية كيف تبدو الروائح جزءًا من حياتنا اليومية متكررة في صور عدة طيبة وأخرى قد تكون سيئة أو تخلق روابط غير مرغوبة وذكرى مخيفة. ماذا عن الممارسات التي تكون الرائحة جزءًا رئيسيا من تأكد إنجازها، كيف تذكرنا الرائحة بمؤشرات خطرة في أدمغتنا نفسيًا أو جسديًا… سرد هذه النقاط الغير مستندة الآن على أي حقائق علمية هو يعطينا فرصة لاكتشاف قائمة طويلة من كيف تبدو الرائحة في حياة كل منا. أستند هنا على نفسي وما حولي ومن حولي، حقائق من تجربة حياتية ضئيلة في مناطق صغيرة و أخرى شاسعة على إنسان واحد. تحصد الروائح غالبًا نصيبًا كبيرًا من اهتمام الإنسان، فنجد أنفسنا نقف قبل كل مناسبة لإختيار الرائحة المناسبة، نصنف العطور ليلية و صباحية، عملية و فرائحية و قس على كل شيء في الحياة كذلك. قد تكون مؤشر تنبيه على وجود خطر ما كرائحة الحريق، أو دلالة على وجود خطب ما يحصل كتسرب الغاز. للرائحة ميزتها..

في ذاكرتي للروائح نصيب لا بأس به من المواقف، رائحة الفصول الدراسية الحادة الملطفة ذات الوقت، رائحة طريق السفر والباصات البرية نحو سوريا أيام العطل الصيفية، رائحة سوريا، رائحة جدتي، عطر أمي الذي أستطيع تمييزه عن بعد، روائح الطعام و غيرها الكثير.


لنتوقف هنا و لأخبركم عن كيف يمكن للروائح أن تكون خيبات عطرة مليئة بالبؤس في لحظات، قد تبدو هذه تدوينة كئيبة و هي كذلك بعض الشيء، فأنا في مزاج لا يسمح لي أن أدون تدوينة مليئة بالروح، بل أشعر وكأني عجوز خائبة تتأمل شقوق جدار قديم في غرفتها متذكرة أحداث حصلت هنا و هناك. 


في العاشر من شهر آب طُلبت مني كعكة ليمون متوسطة الحجم لفترة المغرب. في فترة ما بعد الظهر الحارقة في أيام الرياض هذه دخلت لمطبخ لا يحتوي على أي تكييف، لأصنع كعكة ليمون صيفية بامتياز عن حق وحقيق، انتهيت منها ولم يكن يبث في الصبر سوى الرائحة اللذيذة والقوام المثالي الذي صببت به الكعكة داخل القالب الوردي اللطيف، تركت كعكتي داخل الفرن سعيدة بانتهائي مبكرة من إعدادها، حدث ما لم يكن في حسباني، بعد مرور عشرين دقيقة وإضائتي لمصباح الفرن البرتقالي المدعي للدفء والحنان بلونه الهادئ (أظنه يشبه عريفات الفصول اللاتي يتملقن بعض الإداريات)؛ شاهدت كعكتي تنتفخ أمام عيني ثم انخفضت فجأة بدون أي سابق إنذار، مع شرخ طويل في منتصفها وكأن سكينًا شقت بطنها، أكثر المناظر وحشية هذا ما اعتبرته لحظتها قبل أن تتوالى الوحشية في ذلك اليوم، كانت رائحة الكعكة عطرة ولذيذة، مثالية للغاية، رائحة تستنشقها وتشعر بانتعاش رغم ذلك هي مطعونة للغاية. كنت خائبة وحزينة رغم ذلك أخبرتني والدتي بضرورة خبز كعكة أخرى بسرعة، وهو ما فعلته مع إجبار دمعتي بالبقاء حبيسة عيني، جالسة بكل أدب في مقعدها في مدامع عيني. حاولت استجماع كل طاقة الفرح التي ربما تختبأ تحت أصابعي القصيرة أو جلدها الميت لعلي أخلق سعادة صغيرة هذه المرة بدلًا من كعكة مطعونة طعنة غائرة. صنعت كعكة أخرى، محاولة قدر الإمكان أن أكتشف ما غلطتي، لكن رغم انتباهي وتركيزي الذي وضعت جله في كعكتي الثانية إلا أنها كررت نفس الموقف بحدة أقل، كأنها تعلم أن أبسط إغاظة حتى قادرة على إتلاف أعصابي، لوهلة كان الكعك يتحدث ويخرج لسانه بطريقة مزعجة تمامًا كما الأطفال. لم تكن المشكلة حقا في أن تلك الكعكات تطعن في منتصفها منخفضة بشكل مروع، بل المشكلة أن قوامها مثالي للغاية، ما يجعلني أفكر مرارًا و تكرارًا عن ما هي الغلطة المُرتكبة هنا؟؟؟ كيف حل ذلك؟ ما الحقيقة التي أغفل عنها؟ ما الذي فعلته لتحاول هذه الكعكات إستفزازي. جلست لوهلة أحاول مسح وجهي بيدي الملطختين بالدقيق و بقشور الليمون على رؤوس أصابعي المنتفخة. بقيت أتساءل ثم قررت البحث في قوقل والقراءة عن أسباب إنخفاض الكعكة فجأة أو ما السبب في تلك الطعنات الغريبة، ورغم أني كنت أملك خلفية ثقافية بسيطة فيما يخص الأمر كجودة مسحوق البيكنج باودر ومدة صلاحيته، إلا أني قمت بالإطلاع على التواريخ أسفل العلب لأعلم إذا ما كان لا يزال صالحًا، وللمفاجأة أنه كان ذا جودة وتاريخ صلاحية جيد، شعرت بإرهاق شديد، المطبخ وكل أرجاء المنزل تعم وتعج بروائح عطرة تداعب حواس الشم والمشاعر الرقيقة التي تشابه هذه الرائحة، إلا أنها كانت تبعث في من الريبة الكثير، بعد بعض التقصي إكتشفت التالي، بضع نقاط عن أسباب إنخفاض الكعكات: 


1- قد تكون كما أسلفت مشكلة جودة أو تاريخ صلاحية

2- فرن ساخن للغاية 

3- كمية كبيرة من المواد التي تسبب النفخ للكعكة مثل البيكنج باودر والبيكنج صودا.

4- أو مشكلة خلط زائدة للمواد الجافة، ملاحظة: 

لا تخلطوا المواد الجافة كثيرًا ( دعوها تختلط فقط بانسيابية) 

5- أخيرًا ترك الخليط لمدة أكثر من 15 دقيقة قبل صبه في القوالب. 


هذه الخمسة أسباب هي جملة ما توصلت إليه بعد البحث في عدة مدونات طبخ سأحاول البحث عنها مجددَا لإرفاق روابطها لكم. 

ثم و لأن الخوف ملأ قلبي قررت استعمال وصفة أخرى مختلفة بعض الشيء لعلها تفيدني أكثر من وصفتي، قمت بدمج وصفتين مع دمج المكون الذي يجعل كعكتي مميزة للغاية. كل هذا وأنا أستأذن صاحبة الطلب بالتأخر، أُعلمها أني مضطرة لتأخر اضطراري وأني تعويضًا لذلك سأصنع لها قالب كعك كبير بدل الحجم المتوسط إعتذارًا مني عما حصل، لم تكن المشكلة في الكعكة الثالثة، فقد كانت ثالث كعكة مثالية، جميلة جدًا، عطرة، تفوح منها روائح السكر والليمون العطرة مع ائحة الفرن اللذيذة تلك. 


انتبهوا الآن .. ما حدث كان أمرًا كارثيًا، أمرٌ لا يصدق، أحد أكثر اللحظات المليئة بالبؤس و الحزن. نضجت الكعكة بطريقة مثالية، أخرجتها لونها ذهبي وأطرافها محمرة تحميرًا جميلًا، كنت أحاول نقلها لغرفة باردة بعض الشيء ليسهل علي تبريدها، ما حدث أن الكعكة سقطت من يدي وانقسمت لقطعتين متفتتين، لا أستطيع شرح الصدمة التي اعتلت ملامحي أو حتى كيف بدت مشاعري لحظتها، أو كيف أنه تملكتني رغبة عارمة بالبكاء والصراخ، كنت أنظر لشقيقي وأسأله أن ينادي والدتي. حضرت أمي لعزاء الكعكة الثالثة على التوالي في ذلك اليوم الغريب المخيف البائس بؤسًا مضحكًا. ساعدتني على النهوض وإخباري بأن أخبز كعكة أخرى، وهو ما فعلته حقيقة والحزن يتملكني ودموعي تنهمر وقدرتي على الوقوف كانت تتلاشى، كنت أشعر أني على وشك إسقاط كل شيء، لنشكر بطلة كل المواقف البائسة أمي… لأنني أوشك على الإنهيار في الكثير من المرات بطريقة لا أستطيع ردعها لتصدني بطرقها الخاصة. أخيرًا  وبعد ثلاث عزاءات على أرواح ثلاث كعكات صغيرات السن نضجت كعكة أخيرة لم تنكسر، كعكة واحدة كانت الناجية من مجزرة الكعك المأساوية تلك، كعكة أنقذتني. 


وصلت الكعكة الساعة التاسعة مساء بدلًا من الساعة السادسة… ما كان جيدًا هو تفهم زبونتي اللطيفة للغاية، كان تعالمها اللطيف منقذًا لي أيضًا.. سأمتن طوال حياتي لفلعها اللطيف ذاك. 


لن أبدأ بوصف كعكتي وأنها أفضل كعكة ليمون صنعتها، لكني أستطيع التأكيد بأنها أنعم كعكة ليمون وأكثرهن هشاشة ونعومة ولذاذة. 


كعكات الليمون في العاشر من آب كانت “ خيبات عطرة” خيبات لا تستطيع تجاوز حلاوتها رغم تدميرها والشعور المرعب التي تبعثه وتبثه في قلبك. كل شيء نحبه في الحياة قد يحال لخيبة عطرة دون أن نشعر بأنها تقتل جزءًا من أنفسنا بينما نحن في نشوة الرائحة الأولى الجميلة. 


انتهى … 

صور الكعكات: 

Image drop
Join